رمضان «المعرفى» فى تراث العقاد! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:27 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رمضان «المعرفى» فى تراث العقاد!

نشر فى : الجمعة 17 مايو 2019 - 11:10 م | آخر تحديث : الجمعة 17 مايو 2019 - 11:10 م

كتب العقاد 7 مقالات من أمتع ما يكون، عن شهر رمضان وألوان من الصيام فى ثقافات الشعوب والديانات القديمة، وليلة القدر لم يعالجها بطريقة وعظية خطابية، ولا اجترارية تلقينية، إنما عالجها من منظور تاريخى فلسفى معرفى، أراد أن يستجلى وضعية الشهر الكريم فى مرآة التاريخ والأمم والحضارات السابقة على الإسلام، وأن يقارن بين مكانة الشهر وارتباطاته الدينية والاجتماعية والثقافية فى الإسلام والمسيحية واليهودية، كما قدّم بحثًا رائعًا عن شعيرة الصوم فى الديانات السماوية الثلاث، ويبحث عن الفروق بين الصيام فى اليهودية والمسيحية والإسلام، كما عالج فكرة الصوم فى الحضارات والديانات القديمة، ثم أفرد حديثًا مطولا عن ليلة القدر وشهر رمضان، وآفاقها الروحية وتجلياتها النورانية.

فى هذه المقالات، يتتبع العقاد تاريخ رمضان فى الثقافة العربية، واشتقاقه اللغوى، ويورد فى ذلك معلومات وروايات طريفة، يقول العقاد «رمضان شهرٌ قديمُ الحُرمةِ فى الجاهلية. وكان من عادتهم أن يصوموا أيامًا منه، يبدأونها أحيانًا من منتصف شعبان؛ تيمنًا بالصيف، وتقربًا إلى أربابهم أن تجعله موسمًا من مواسم الخصب والرغد، وكانوا يسمونه قديمًا بالناتق أو الناطل، من الناقة الناتق؛ أى كثيرة الولادة، أو من الناطل؛ وهو كيل السوائل. ولا تزال كلمة النطل تفيد معنى قريبًا من هذا المعنى، سواء باللغة العربية الفصحى أو بالعامية التى تجرى على ألسنة السواد».

وفى مقالٍ آخر، يوضح العقاد أن الصيام لم يُفرض فى شهر رمضان منذ قيام الدعوة الإسلامية؛ بل كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصوم فى كلِّ شهر ثلاثة أيام، ثم فُرض صيام رمضان كله بعد الهجرة إلى المدينة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: ١٨٥). ومن المعلوم أن القرآن الكريم تنزَّل فى ثلاث وعشرين سنة، فالمقصود إذن على القول الراجح بين المفسرين هو ابتداء النزول؛ إذ تواتر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد تلقى الوحى أول مرة وهو يتعبد بغار حراء.

ويتتبع العقاد، فى بحثٍ تاريخى شائق وممتع، شعيرةَ الصوم فى الإسلام وفى الأمم وأصحاب الكتب من قبلها، يقول العقاد «ولقد كُتب الصيامُ على المسلمين كما كُتب على الأمم من قبلهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٨٣).
ويكشف أن إشاراتٍ كثيرة جاءت فى العهد القديم إلى صيام الأنبياء وصيام غيرهم من أهل الكتاب؛ «ففى سِفر الخروج أن موسى عليه السلام «كان هناك عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماء». وفى سِفر الملوك الأول أن النبى إيليَّا «سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهارًا وأربعين ليلة إلى جبل حوريب». وفى إنجيل مَتَّى فى العهد الجديد أن السيد المسيح صام أربعين يومًا فى البرية».

ومن البحث التاريخى يستطرد العقاد إلى «الوقائع العلمية» أو ربط المادة التاريخية بمستجدات العلم والكشوفات الحديثة فى ما يخص الصوم، وفى هذا الصدد يقول العقاد: «وراجع الباحثون العصريون أخبار الصيام المحققة فاستدلوا بحادث محافظ كورك «تيرنس ماكسوينى» على أن الجسم يحتمل البقاء بغير الطعام أربعة وسبعين يومًا إذا لم ينقطع كل الانقطاع عن الشراب؛ لأن المحافظ المذكور أمسك عن الطعام فى الثانى عشر من أغسطس، وبقى ممسكًا عنه إلى الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1920م، ولم يغب عن وعيه غير أيام قبيل وفاته، ولم يكن من أصحاب القوة البدنية البالغة، بل كان وسطًا بين القوى والهزيل».

هكذا، وعلى هذا المنوال، يمضى العقاد فى التنقل بين القديم والحديث، الواقع والتاريخ، الدينى والعصرى ليقدم مادة جميلة وممتعة وطريفة عن موضوع «دينى» ظلّ الفقهاء وخطباء المساجد والوعاظ يتناقلون مروياته وأحكامه دون تغيير أو تجديد على مدار ألف وأربعمائة سنة، لم يفكر واحد منهم فى البحث عن الجديد أو المفيد أو الطريف أو اصطناع مناهج عصرية وطرق عرض حديثة فى التعامل مع مادة رمضان والصيام وليلة القدر.

وأظنهم سيظلون كذلك لألفٍ وأربعمائة سنة قادمة!