بعد أن استقرت الحداثة فى أوروبا والعالم الغربى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفيتى، بدأت العديد من الأقلام الغربية والشرقية فى نقد الحداثة الغربية، صحيح أن هذه الانتقادات لم تتوقف أبدا منذ القرن التاسع عشر، ولكن تزايدت الكتابات الناقدة للتجربة بعد انهيار الكتلة الشرقية والإعلان عن عالم جديد أحادى القطبية يسوده المنطق الحداثى الغربى.
الحقيقة أن تجربة «النقد» هى فى أحد أوجهها نتاج للحداثة التى رفضت تفسيرات ما وراء الطبيعة وتحيزت للعقل، والأخير طالما تم إعماله، فإن أحد النتائج المتوقعة هو ديمومة التفكير وهذه الأخيرة تقود بالضرورة للنقد. النقد إذن لا يعنى فساد التجربة الحداثية ولا التسليم بفشلها كما هو المنطق الشرقى أحادى التفسير المتحيز لوجهة النظر الواحدة والباحث عن انتصارات أسطورية، التيار النقدى الغربى عموما لم يتوقف على الحداثة ولكنه تعامل مع كل منتجاتها السياسية والثقافية والاقتصادية والفنية، حركة فكرية لها صدى مجتمعى شملت الفن والفلسفة والديمقراطية والرأسمالية والعلمانية وغيرها، وهو ما تطور لاحقا لما يعرف بتيار «المابعديات»، كالحديث عن «ما بعد الحداثة» أو عن «ما بعد الديمقراطية»...إلخ هذا التيار فى رأيى هو أحد أهم أسباب التقدم الغربى ولاحقا الشرقى، كما أن غيابه بالضرورة وبدون أدنى شك هو أحد أسباب تأخر المجتمعات العربية قاطبة وقطاع كبير من المجتمعات الإسلامية، غياب التيار النقدى أو محاصرته هو أحد أهم أسباب التطرف والفشل والسطحية فى معظم التيارات السياسية والفكرية العربية، الإسلامية منها والعلمانية، البحث عن الأساطير، والانتصارات الساحقة والحقائق المقدسة لا يعنى ولن يعنى فى المستقبل سوى المزيد من الفشل أو التجمد ولهذا حديث لاحق بشكل أكثر إسهابا.
***
ما هى الانتقادات الأساسية التى وجهت إلى التجربة الحداثية الغربية؟ فى السطور التالية أرصد أهم خمسة انتقادات وجهت للحداثة من كتاب وأكاديميين وفلاسفة غربيين:
الحداثة بين الفردانية وانسحاق الذات: الحداثة قائمة على العقلانية، والعقلانية قائمة على العلم والقياسات الدقيقة للعالم من حولنا بعيدا عن أى افتراضات ميتافزيقية، الذات العاقلة هى الأصل فى التجربة الحداثية سواء من الناحية الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية، ولكن هل تطور التجربة الحداثية عبر أكثر من ثلاثة قرون انتصر للذات؟ ترى الكتابات الغربية الناقدة للحداثة، أن الأخيرة أنتجت «فردانية» وليست «ذاتية» ورغم أن المعنيين قد يكونان مترادفين، إلا أن الحداثة الغربية قد قامت بعملية خداع أوهمت فيه الناس بأهمية فرديتهم ولكنها فى الواقع سحقت ذواتهم! فالآلة الاقتصادية للحداثة الغربية (الرأسمالية المعتمدة على سوق حر ومنافسة مفتوحة) سحقت الذات، لأنها سحبت منها أهم ما تملك وهو القدرة على اتخاذ القرار ومن هنا لم يعد للعقلانية أى معنى! بعبارة أخرى ما لم تكن من القلة المسيطرة على رأس المال، فإن فرديتك هى وهم بل هى فى حد ذاتها قيد يمنعك من مواجهة أصحاب رأس المال لأنها تسلبك القدرة على التعبئة وتسيطر على وعيك لتجهيلك وإنهاك قدرتك على مقاومة سطوة الطبقات المنتصرة!
الحداثة بين النظام والحرية: الانتقاد الثانى لتجربة الحداثة الغربية يرى أنه بينما انحازت الحداثة اجتماعيا وثقافيا للحرية كمبدأ مؤسس، إلا أنها سياسيا وواقعيا فضلت النظام على الحرية. أى إنه عندما تعارضت الحرية مع النظام، فإن الحداثة انتصرت للأخير ليس تعبيرا عن مبدأ سيادة القانون كما قد يقول البعض، ولكن تعبيرا عن مصالح الطبقات الاقتصادية المنتصرة اقتصاديا ومن ثم سياسيا. بعبارة أخرى، فإن الحداثة لم تنحاز فى التحليل الأخير للحرية كمبدأ مؤسس، ولكنها انحازت للنظام المعبر عن الطبقات المنتصرة فانتفت الحرية لصالح الأنظمة. عدم قدرة الحداثة على تفكيك العلاقة العضوية بين الطبقات المنتصرة وبين جهاز الدولة المعبر عنه بواسطة النظام، جعل من الأخير قيمة عليا فى حد ذاتها سحقت حريات الأفراد بالقانون وحولتهم إلى تروس صغيرة فى ماكينات عملاقة لا تنتج إلا ما ينفع المنتصر!
الحداثة بين الدينى والعلمانى: رغم أن الحداثة الغربية لم تعنى فى معظم نسخها المعتمدة غربيا سوى «حياد» الدولة تجاه المواطنين بغض النظر عن أديانهم، إلا أن العديد من الكتابات الغربية ترى أن الحداثة ذهبت بعيدا إلى حد اضطهاد الدين، إلى النفى التام للروح من أجل العقل، إلى استبعاد المشاعر تحت دعوى البرجماتية، فحولت الحداثة العلمانية العقلانية إلى دين فى حد ذاته يقمع ما عداه من أديان كما أنها عملت أيضا على سحق الهويات المتنوعة للشعوب الغربية وغير الغربية واستبدلتها بهوية جامدة معبرة عن انتصار العقل على الدين. ترى هذه الكتابات أن الأديان لم تكن أبدا مانعا من تحديث المجتمعات الغربية قبل الشرقية، حضر الدين مقاوما فى إنجلترا وفى الولايات المتحدة وفى شرق أوروبا وفى أمريكا اللاتينية وفى الهند وفى ماليزيا وفى تركيا وفى جنوب إفريقيا ولم تتعطل النهضة، عرف العديد من قادة هذه الدول بالتدين ولم تتأثر الديمقراطية، مما يؤكد أن الحداثة الغربية ذهبت بعيدا فى تقييد الدين واختلقت خلافا مصطنعا (أو على الأقل مبالغا فيه) بين العقل والدين.
الحداثة بين العولمة والتغريب: لعل أحد أهم منتجات الحداثة منذ بدايتها كانت «العولمة»، أى نقل منتجات ثقافية ومجتمعية واقتصادية وسياسية ونشرها عبر العالم، النسخ الأولى من الحداثة المتعولمة كانت عبر الاستعمار الذى سيطرت فيه القارة العجوز على كل أنحاء العالم تقريبا من أقصى الجنوب وحتى أقصى الشمال، من أقصى الشرق وحتى أقصى الغرب، لم يكن من الممكن أبدا مقاومة تلك السيطرة الأوروبية المنتشية بفعل الثورتين الصناعية والسياسية من اجتياح العالم وفرض منطقها. لم تكن نهاية الاستعمار سوى فصل جديد من نشر السيطرة الغربية بوسائل أقل عنفا وأكثر مهارة تسلل منها التغريب إلى عقول وقلوب العديد من شعوب العالم وهو الوضع المستمر حتى الآن، لكن هل انتصرت الحداثة هنا للقيم العالمية أم أنها فرضت القيم الغربية محاولة محو التباينات الثقافية والقضاء على الثقافات المناوئة؟ ترى الكتابات الغربية فى هذا السياق أن الحداثة ليست إلا «تغريبا»، أى فرض الثقافة الغربية على غيرها من الثقافات، باعتبار أن النموذج الغربى هو وحده النموذج الأنجح للنهضة والتقدم. ولعل كتابات فوكوياما الشهيرة حول «نهاية التاريخ» بعد شهور قليلة من انهيار الاتحاد السوفيتى هى تأكيد لهذا المنطق التغريبى المهيمن والمتحيز لانتصار الرجل الأبيض ومنظومته القيمية بشكل نهائى تنتفى من بعده أهمية أى معركة ثقافية أو فكرية. وعلى الرغم من أن فوكوياما نفسه قد عدل لاحقا من أفكاره، فإن الممارسة الغربية سياسيا وثقافيا واقتصاديا لم تنحز إلا إلى التغريب.
الحداثة بين الشمولية والأصولية: أما الانتقاد الأهم من وجهة نظرى فقد كان متعلقا بأثر كل مثالب التجربة الحداثية الغربية (الاستعمار، تمثيل الطبقات المنتصرة، معاداة الدين، التغريب) على الإطار الفكرى والحركى للشعوب والفاعلين من غير الدول للنظام الدولى فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، فكل هذه المثالب أدت أولا إلى ظهور الحداثة بشكل شمولى، لا يقبل الاختلاف لطالما ظل منتصرا. ومن هنا فلا عجب أن العديد من التجارب الحداثية العلمانية لم تكن إلا شموليات بحتة سواء فى أوروبا (شرقا وغربا) أو فى أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، ولكن هذه الشمولية ارتبطت بردود فعل أصولية ذهبت للعودة إلى الأصل (دينيا وثقافيا) كوسيلة من وسائل مقاومة شمولية المنطق الحداثى وهو ما عزز فى التحليل الأخير الاتجاهات المتطرفة فكرا وحركة!
هل يمكننا إذن الحديث عن حداثة غير غربية كبديل للحداثة الغربية؟ هذا ما أحاول تناوله فى المقالة القادمة.
أستاذ مساعد العلاقات الدولية الزائر، جامعة دنفر.
الاقتباس
النقد إذن لا يعنى فساد التجربة الحداثية ولا التسليم بفشلها كما هو المنطق الشرقى أحادى التفسير المتحيز لوجهة النظر الواحدة والباحث عن انتصارات أسطورية، التيار النقدى الغربى عموما لم يتوقف على الحداثة ولكنه تعامل مع كل منتجاتها السياسية والثقافية والاقتصادية والفنية.