نقاش هادئ شهدته صفحتى بموقع «فيس بوك» مع زميلين من خبراء المهنة واصحاب تجربة صحفية واسعة وطول مقام فى العمل الإعلامى، بشأن الوضع الذى وصل إليه الإعلام المصرى بشكل عام والصحافة بشكل خاص على خلفية تغطية أحداث الانقلاب الفاشل الذى شهدته تركيا، وما تلاه من تداعيات لازالت جارية على الأرض، فى ضوء القرارات المتسارعة التى يتخذها الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بحق خصومه، بين فصل لألوف القضاة، واعتقال لألوف العسكريين من المتهمين بالضلوع فى الأحداث.
النقاش جعلنى أتأمل ما جرى عبر وسائل إعلامنا، ففى انقلاب الست ساعات الذى قاده المستشار القانونى لرئيس أركان الجيش التركى محرم كوسا يوم الجمعة الماضى، شاهدنا وسمعنا فى الإعلام المصرى العجب العجاب من أساتذة التحليل السياسى «الساكت» الذى لا يقول شيئا مفيدا، كما تابعنا إعلاميى الهوى والغرض، الذين طفحوا بأمراضهم المهنية، وقذفونا بحمم أهوائهم المضللة، وبما يدفع الناس إلى فقدان الثقة فيما تقدمه وسائل الإعلام المحلية، فتتحول المؤشرات، بشكل طبيعى، إلى الإعلام الأجنبى.
هذا المذيع يصرخ مرحبا بما يجرى فى ساحة ميدان تقسيم فى اسطنبول، وذاك يهلل سعيدا بما يحدث على جسر البسفور الذى يتحكم فيه بضع جنود، أما الخبير السياسى الجهبذ الذى يعمل فى مركز الدراسات العريق، فقد قال بملء فيه: «ها هى صفحة أردوغان تطوى»، كل ذلك من قبل أن ينقشع الدخان الصادر عن عوادم السيارات العسكرية والأمنية عن الأفق التركى فى الليل البهيم.
وفى الصباح كانت عناوين الصفحات الأولى لغالبية الصحف المصرية، إلا من رحم ربى، تعكس رغبات واضعيها، فى ابتعاد واضح عما تمليه المعايير المهنية فى متابعة حدث على هذا القدر من الأهمية، سواء بالنسبة لدولة كبيرة بحجم تركيا أو علينا باعتبارنا جزءا من الإقليم، بعد أن باتت الجغرافيا تفرض نفسها على حركة البشر، وعلاقاتهم بعضهم البعض.
لأول مرة أجد نفسى منذ سنوات، أبحث عن هذه المحطات الإخبارية الخارجية، لمتابعة ما يدور على المسرح التركى، علنى أفهم ما يحدث بعيون محايدة إلى حد ما، لأنه ليس هناك حياد مطلق، وبأصوات لديها الحد الأدنى على الأقل من المهنية التى تعصمها من الوقوع فى التهليل، لهذا الطرف أو إظهار الشماتة فى الطرف الآخر، صحيح أن مسار الأحداث وفى ساعتيها الأوليين كان المشهد ضبابيا خلالهما، لكن ذلك، وبحكم الخبرات المتراكمة من تغطية أحداث مشابهة، أمكن لأصحابها تجنب السقوط فى بئر عدم المصداقية، أو الانحياز.
هل نلوم الناس، بعد ذلك، إذا ما عادوا إلى ما كان الوضع عليه قبل 25 يناير 2011، من متابعة للإعلام الخارجى، والتعامل بالريبة والشك مع الإعلام المحلى؟!. اعتقد الإعلاميون المصريون أنهم بعد ثورة 25 يناير استعادوا الثقة فى قدراتهم التى لا أحد يشكك فيها عندما يعملون فى الإعلام الأجنبى، لكننا للأسف نزحف رويدا رويدا إلى هوة التخلى عن المهنية والاحترافية بما يبدد الجهود التى بذلت لتأكيد المصداقية فيما يقدم للجمهور من أخبار وآراء.
الإعلام المصرى يمر بمنعطف حاد، سندفع ثمنه إن عاجلا أو آجلا، إذا لم يتنبه القائمون عليه إلى أى منزلق يتجهون، ولن ينفع البكاء على اللبن المسكوب، عندما يدير الجمهور عيونه وآذانه للإعلام الخارجى، ويصبح الرأى العام نهبا لأهواء وتوجهات لن تصب فى الصالح المصرى بأى حال من الأحوال.. آمل أن نتنبه مبكرا، وقبل فوات الأوان، فقد انتهى عصر الإعلام الموجه الذى يملى على متابعيه ما تريده الحكومات وما يرضى السادة المسئولين.