التواصل الاجتماعى هو بطل عزل ترامب وليس الكونجرس بمجلسيه. فبعد قرار شركة تويتر تجميد حسابه، ولحاق باقى مواقع التواصل بها مثل فيسبوك وسناب شات وإنستجرام، تلاشى مفعول ترامب وكأنه بلا أثر. مما يطرح السؤال حول قوة شركات التواصل ومدى تحكمها فى حياة البشر والمجتمعات. فلقد أصبحت لاعبا سياسيا بامتياز ليس فى إحدى جمهوريات الموز، ولكن فى أعتى الدول قوة. ولم تنتظر الشركة حكم محكمة، ولا تفسير فقهاء القانون لكى تتخذ قرارها، وإنما نبع القرار من شعور الشركة بمسئوليتها عن محتوى ما يتم نشره. إذن أضافت الشركة خاصية مراقبة المحتوى بالإضافة لكونها مقدم خدمة التواصل الاجتماعى. ومعنى ذلك، أن معايير الشركة فى تحديد مضمون ما يتم نشره أصبح هام كالقانون. لكن من يضمن حياد هذا المعيار، ناهيك عن ضمان من يقوم بالتقييم نفسه؟
والحكاية لم تبدأ بتجميد حسابات ترامب على السوشيل ميديا؛ حيث فقد تأثيره بعد فقدانه طريقة التواصل المفضل مع جمهوره ومعارضيه فى آن واحد، ولكن بدأت مع تولى ترامب الرئاسة. فمنذ البداية حامت حول شرعيته الشبهات؛ حيث طعن الديمقراطيون فى نتائج الانتخابات بسبب التدخل الروسى فى إعلانات الفيسبوك الموجهة والتى أساءت لهيلارى كلينتون منافسة ترامب. وما زاد الطين بلة أن كل وكالات الأمن الأمريكى الستة عشر أجمعت على حدوث اختراق روسى أثر على نتائج الانتخابات الأمريكية. وبغض النظر عن صحة هذه المزاعم من عدمها، فإن البطل فى الواقع هو السوشيال ميديا نفسه. فالاختراق حدث عن طريق السوشيل ميديا، والتأثير أصاب جمع من مستخدمى السوشيل ميديا. بمعنى أن الناس سيقت إلى الاختيار مدفوعة بما رأته على السوشيل ميديا، الذى أضر بمرشح وجاء لصالح مرشح آخر.
***
رد فعل شركات التواصل الاجتماعى جاء بمحاولة تنظيم ما يظنونه فوضى عارمة تجتاح منصاتهم. وهذا عن طريق مراقبة المحتوى لاسيما فيما يخص الموضوعات العامة، فى الأوقات الحساسة أو الحاسمة. من هنا جاء تجميد حساب ترامب خشية مساهمته فى تأجيج الاحتجاجات التى قد تعرقل تنصيب بايدن كرئيس جديد للولايات الأمريكية التى تكاد تفقد اتحادها. نفس الشىء يتكرر فى أى مزاعم حول كورونا. فلقد حذفت المواقع عشرات المنشورات المتعلقة بأخبار عن فيروس كورونا، وعن رئيس شركة فايزر الذى باع جزءا من أسهمه قبل الاستفادة من الأرباح المتوقعة، بعد إعلان الشركة عن الوصول لمصل مكافح للفيروس. لماذا تسرع رئيس الشركة فى البيع؟ هذا ما لا تريد مواقع السوشيل ميديا تداوله. وبهذا تصبح السوشيال ميديا فاعلا جديدا فى مختلف مناحى الحياة.
ولا يعنى هذا سيطرة مواقع التواصل الاجتماعى على حياة البشر والمجتمعات ونهاية الحكاية، بل هى البداية. وإليك تفصيل لأمرين بالإضافة لحرية التعبير التى تخضع لرقابتهم. قبل تفشى الكورونا على هذا النحو، كان العالم مأخوذ بالمواجهة بين الصين والولايات الأمريكية فيما بدى وكأنه بوادر حرب باردة جديدة. وشواهد المبادرة تمثلت أولا فى الحرب التجارية بين البلدين التى دارت حول التعريفة الجمركية، بحجة تعديل الميزان التجارى بين البلدين المائل لصالح الصين، حتى يصبح أكثر عدلا للولايات الأمريكية. وكأن الأوراق المطبوعة التى يطلق عليها الدولار، يساوى كل الخيرات التى يجلبه من العالم إلى أمريكا. ثم انتقلت المواجهة إلى التكنولوجيا، وهنا مربط الفرس. فلقد ركزت إدارة ترامب المواجهة حول شركة هواوى والجيل الخامس من شبكات الاتصالات، مما قسم العالم إلى متعاون مع شركة هواوى الصينية أو متعامل مع الجانب الأمريكى. ثم خرجت علينا الكورونا.
ولقد تبارت كل من الولايات الأمريكية والصين فى إلقاء التهم على الجانب الآخر، بأنه هو المتسبب فى تطوير ثم نشر الفيروس فى العالم. وفى وسط انشغال الناس بهذه الأمور الظاهرة، التى لا نفع فيها، تمر فى غفلة مسألة التحول الذى يجرى فى العالم. فلا هى نقلة من الغرب إلى الشرق، ولا هى بحرب باردة جديدة، ولكن نقلة من الغرب إلى العالم الموازى، حيث أصبحت منصات التواصل الاجتماعى، وسبل التواصل الإلكترونى هى الفاعل الجديد. وإليك ما أعلنته الشركة المالكة لتطبيق «زووم»؛ حيث زادت الاجتماعات على منصتها من 10 ملايين لقاء سنوى إلى 200 مليون لقاء فى أول ستة أشهر بعد الجائحة. ثم فجأة سرت معلومة، لا ندرى مصدرها، أن تطبيق «زووم» غير آمن، وفتح الباب أمام تطبيقات أخرى مماثلة، مثل «تيمز» التابع لشركة مايكروسوفت. ولا عجب فى ذلك إذا عرفت أن تطبيق «زووم» يستعمل منصة صينية بينما «تيمز» يستعمل منصة أمريكية. وإليك السؤال التالى، هل بوسع هذه الشركات، بعد أن تصبح وسيلة التعليم هى التعلم عن بعد، أن تتحكم فى محتوى أو مضمون ما يتم تدريسه مثلما فعلت منصات التواصل الاجتماعى فى تحديد ما هو مسموح بالنشر؟
***
الآن العالم يتوسع بطريقة غير مسبوقة فى تطبيق الشمول المالى، الذى يضع كل التعاملات المالية عبر التطبيقات الالكترونية، ويدخل شريحة لم تكن مرئية فى الاقتصاد الرسمى. وقد يعتبر هذا نصر مبين للبنوك؛ حيث تتوسع فى امتلاك قاعدة العملاء، وفى تقديم الخدمات. لكن هذا التوسع يأتى على حساب أمر هام. فعندما تعطل الاقتصاد الرسمى بعد ثورة يناير، استمر الاقتصاد الموازى (تحت بير السلم) فى الدفع بالبلد إلى الأمام. ولولا ذلك لانكمش اقتصاد الدولة بنسبة كبيرة بدل من النمو الذى تحقق بواقع 2% كما كان الحال. لاحظ أن نمو الشمول المالى عالميا يواكبه نمو فى نشر العملة الرقمية (وليس فقط العملة المشفرة)، وهى عملة الكترونية غير نقدية تتيح الشراء والبيع عبر تطبيقات المحمول. وهى تصدر من البنك المركزى الخاص بالدولة. ولقد طبقت الصين العام الماضى تجربة ناجحة فى أربع مدن كبرى ودفعت بها المرتبات. والسؤال، هل تستطيع تطبيقات المحمول يوم ما التحكم فى أوجه صرف العملة الإلكترونية؟
هذه ليست دعوة للعزوف عن عالم الترقيم أو الديجيتال، ولكن تنبيه بمفهوم أرجو أن يصل إلى الناس. كلما وجدت خدمة مجانية مثل الاشتراك المجانى فى سبل التواصل الاجتماعى وغيرها من التطبيقات، فأعلم أنك المنتج الحقيقى وليس المنصة أو التطبيق المجانى الذى تشترك فيه. هذا ولم نتكلم عن «الواتس آب» وما يريد فعله فى خصوصية المشتركين.