فى لحظة توقف إطلاق النار، وفى هدأة الدمار الذى أسكت أصوات المدافع والصواريخ، نقف اليوم لنخاطب شعب غزة العظيم، شعب فلسطين البطل، الذى عاش خمسة عشر شهرًا من الجحيم، والذى أثبت للعالم كله أنه أقوى من الإبادة.. وأقدر على البقاء رغم أنف الطغاة المحتلين ورغم أنف الجدران المدمرة. إن وقف أزيز الطائرات ولعلعة الرصاص وحمم المدافع جاء ليعطى هذا الشعب الأبى فرصة التقاط الأنفاس على درب طويل من النضال الذى لن ينتهى إلا بدولة فلسطينية عاصمتها القدس، بسواعد أبنائها الأبرار وتضحياتهم التى لا نظير لها فى تاريخ الإنسانية كلها.
أيها الأبطال، لن أنشغل بمن يحكم غزة، ولن أضيّع اللحظة التاريخية فى جدال حول من انتصر ومن انهزم؛ لأن الانتصار الحقيقى اليوم هو أنكم مازلتم على أرضكم.. تقفون كشجرِ الزيتونْ.. كجذوع الزمن تقيمونْ.. كالزهرةِ.. كالصخرةِ.. فى أرض الدار تقيمونْ، رغم كل محاولات الإبادة والتهجير، رغم كل محاولات خلق نكبة جديدة وفرض واقع مغاير على ما تبقى من أرضكم المقدسة.
أيها الأبطال، أنتم الذين بقيتم واقفين وسط الخراب، أنتم الذين حملتم أطفالكم بين الأنقاض، ودفنتم شهداءكم فى الأرض التى تقاوم معكم. أنتم الذين علمتم العالم معنى الصمود، ومعنى أن تبقى إنسانًا فى وجه ما كل ما هو لا إنسانى.
• • •
أيها الشعب العظيم، خمسة عشر شهرًا من القصف المستمر، من تهديم البيوت على رءوس ساكنيها، من الآلام التى لا تعرف التوقف. ومع ذلك، كنتم أقوى. صبرتم رغم كل الوجع، وقاومتم بدمائكم كل محاولات اقتلاعكم من أرضكم التى هى أحب إليكم من أبنائكم، الذين كانوا يغنون لفلسطين رغم أن الموت يحاصرهم فى كل الأزقة والطرقات والبنايات. هذه القوة ليست قوة السلاح، بل قوة الإيمان بالله.. وبالحياة وبالوطن وبالأرض.. قوة الروح التى لا تنكسر. من حقكم اليوم أن تستريحوا، أن تلتقطوا أنفاسكم وتضمّدوا جراحكم. من حقكم أن تشيّدوا ما هدمته آلة الحرب، وأن تستعيدوا شيئًا من الحياة التى سُرقت منكم.
أيها الأبطال.. لقد علمتمونا على مدار هذه الأشهر الطويلة والكئيبة أن الحياة كم هى رخيصة، وأن أعقد مشكلاتنا كم هى تافهة أمام صبركم وثباتكم وإيمانكم بعدالة قضيتكم والذود عن أرضكم بالأفعال لا الأقوال.. بالروح والدم.. لا بأناشيد الصباح أو أمام الكاميرات.. إن العالم مدين لكم، نحن جميعًا مدينون لكم. مدينون لأنكم قاومتم نيابة عن الحق، نيابة عن الكرامة الإنسانية التى يريد الاحتلال طمسها.
• • •
أيها الأبطال.. إن هذا اليوم الذى توقف فيه إطلاق النار (الذى نتمنى أن يكون مستداما) ليس نهاية للأحزان، ولكنه بداية للتعافى. أحزانكم ستبدأ اليوم على من ارتقوا شهداء ومن سقطوا فى ساحات الشرف مصابين، على الأطفال الذين فقدوا أحلامهم قبل أن تكتمل، على الأمهات اللاتى غادرن قبل أن يقبّلن جباه أبنائهن للمرة الأخيرة، على الأزواج الذين رحلوا فى صمت تحت الأنقاض. ولكن، فى وسط الحزن، هناك شعلة أمل بأن القادم يحمل وعدًا جديدًا.
أيها الشعب العظيم، أنتم تستحقون الحياة.. أنتم تستحقون السلام. أنتم تستحقون أن تُرفعوا فوق الركام لتبنوا وطناً يليق بتضحياتكم. نحن معكم بقلوبنا ودعائنا وسنبقى معكم حتى ينتهى هذا الكابوس إلى الأبد.
• • •
خير الختام من أنشودة جسر العودة بصوت فيروز:
وسلامى لكم يا أهلَ الأرض المُحتَلَّةْ
يا مُنزَرِعينْ بمنازِلِكمْ
قلبى مَعَكُم وسلامى لكُمْ
والمجدُ لأطفال آتينْ
الليلةَ قد بلغوا العشرينْ
لَهُمُ الشمسُ لَهُمُ القدسُ
والنصرُ وساحاتُ فلسطينْ