نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى، تحدثت فيه عن مواطن تهميش المرأة فى القانون الانتخابى التونسى الجديد الصادر بتاريخ 15 سبتمبر الجارى، وكتابة نصوصه بلغة ذكورية غير إدماجية تتجاهل الكينونة المستقلة للمرأة.. نعرض من المقال ما يلى.
سمح دخول النساء مجال العلوم السياسية والقانونية للدارسات بإعادة النظر فى التدبير السياسى ورصد القيم الذكورية التى تحكم «عالم السياسية» وتحليل المركزية الذكورية والتوقف عند مظاهر التمييز واللاعدالة فى النصوص القانونية والتعمق فى دراسات علاقات القوّة والتسلّط والهيمنة وغيرها من المواضيع. على مرّ عقود من الزمن تحقّق التراكم المعرفى الذى يُعنى بتوضيح العلاقة المتينة بين السياسة والجندر والقوّة والسلطة.
وانطلاقا من هذا التصوّر الجديد للعلوم السياسية والقانونية الذى يأخذ مأخذ الجدّ هذه الأبعاد كان لابدّ من التفاعل مع القانون الانتخابى الجديد الصادر بتاريخ 15 سبتمبر 2022 بفصوله الجديدة من منظور يعاين مواطن التراجع ولعلّ أهمّها تهميش التناصف (الأفقى والعمودى) والتغاضى عن كتابة النصوص القانونية بلغة إدماجية لا تقصى بل تعترف بالكينونات المستقلة للنساء وتضع بعين الاعتبار مطالب الناشطات منذ مسار الانتقال بجندرة لغة النصوص القانونية.
فباستثناء الفصل الـ5 جديد الذى ينص على أن حق الانتخاب هو حق لجميع التونسيات والتونسيين والفصل 19 جديد الذى ينص على أن الترشح حق لكل ناخبة أو ناخب تونسى كانت لغة الصياغة ذكورية بامتياز تكرّر أكثر من مرّة «المترشح» و«الناخب» و«المحامى» و«النائب» و«رئيس الدائرة».. وهو أمر يوضّح أنّ للغة سلطة فى تشكيل المتخيل الجمعى وترسيخ مجموعة من التمثلات من ذلك أنّ السياسة حكر على الذكور وما النساء إلاّ «زينة المحفل» أو أصوات تمنح لتزكّى الرجال وتخدم مشاريعهم وطموحاتهم. ومن المعلوم أنّ كلّ المهتمات والمهتمين بالمشاركة السياسية للنساء يتوقعن وفق المناخ الجديد، تقهقر مشاركة التونسيات فى المسار الانتخابى باعتبارهن مترشحات وناخبات على حدّ سواء.
والملفت للنظر فى هذا القانون، استبدال التناصف الذى طالبت به الجمعيات والناشطات والجامعيات بفصل يوضح حضور النساء بوصفهن يمثلن «نصف المزكّين» وبوصفهن «من الإناث» فى مقابل الذكور. وهنا تغيب النساء بوصفهن مواطنات ليحضرن من خلال الجنس (إناث) ويغيب التناصف مبدأ لإدارة الفعل السياسى ووسيلة لتغيير مواقع النساء فى الأحزاب وإرباك العقليات. وتحيلنا عملية التزكية على ما كان يطلب دائما من النساء فوراء السياسى الفائز فى الانتخابات امرأة ساندته وآزرته، ووراء المفكّر السياسى زوجة صالحة دعمته فوجب شكرها على طول صبرها.
يبدو التناقض جليّا بين التزام الدولة بتطوير حقوق النساء الفصل 51 من دستور 2022 تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها. تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة فى تحمل مختلف المسئوليات وفى جميع المجالات. تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل فى المجالس المنتخبة، وهندسة النشاط السياسى من منظور ذكورى لا يرى النساء فاعلات فى السياسة بل وافدات يتولى الرئيس/ الأب / الدولة الوطنية.. تحديد أدوارهن ومواقعهن ووظائفهن وكلّما حسبت النساء أنّهن كسبن معركة ظهر من يعيدهن إلى الوراء.
لاشكّ عندنا أنّنا نشهد عمليّة نسف للبناء الذى أقيم بفضل جهود الناشطات والناشطين والأكاديميين والأكاديميات وغيرهن(م) من الفاعلين والفاعلات والذى عبّر عن تصورات وطموحات وأحلام وطرائق فى الفهم وإدارة الشأن السياسى وعكس مسارا يرنو إلى التطوير والتحديث يقرن الديمقراطية بحقوق النساء ويرى أن البناء لا بد أن يستمر وفق نسق تصاعدى. ولكن ثبت اليوم أن من يملك سلطة القرار بإمكانه وبجرة قلم، أن يعيد ترتيب العلاقات والقيم والمعايير وفق رؤيته وإرادته فيعزز الهيمنة الذكورية نصا ومؤسسات وخطابا وإجراءات.
لم يكن الضغط من أجل فرض التناصف وجندرة اللغة القانونية تواطؤا مع القوى الاستعمارية لفرض «بدعة» وتغيير طبيعة المجتمع وخصوصيات الأمة والثقافة بل كان فعلا فى الواقع من أجل تغييره حتى يكون متطابقا مع ثقافة حقوقية ومواطنية انخرط فيها النساء والرجال، الشبان والشابات الذين آمنوا بأنّ السياسة أداء يتجاوز الجندر والطبقة والسن والدين والفقر وأن النظام الانتخابى لابد أن يعكس رؤية مساواتية لا تميز بين المواطنين والمواطنات لأنّهم جميعا شركاء فى هذا الوطن ومن حقّهم (ن) أن يحلموا بعالم أكثر عدالة.