عاد الدكتور محمد البرادعى إلى أرض الوطن مساء الجمعة الماضى، وقد كنت من بين آلاف تجمعوا فى مطار القاهرة ترحيبا به. وقد فاق الحشد الذى تجمع فى هذه المناسبة أكثر توقعاتى تفاؤلا، فقد كنت أتصور أن تحول المضايقات الأمنية المألوفة فى مثل هذه الظروف دون حضور أعداد كبيرة، ولكن يمكن القول بأن أجهزة الأمن قد تصرفت فى هذا اليوم بدرجة كبيرة من التعقل، أتمنى أن تتكرر فى مناسبات مشابهة. وأظن كذلك أن الذين احتشدوا للقاء دكتور البرادعى كانوا ــ وهو أمر متوقع ــ مثالا راقيا على التعبير السلمى الجماعى عن الرأى.. وباستثناء هتاف وحيد ردده بعضهم، لم تحمل هتافاتهم الأخرى أى تجريح أو إهانة لشخوص قيادات الدولة.
وقد كان السؤال الذى يشغلنى طوال فترة الانتظار، التى زادت على ساعتين بسبب تأخر طائرة الخطوط الجوية النمساوية التى أقلت المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، هو ماذا بعد هذه العودة؟ وهل يمكن أن تفتح هذه العودة فصلا جديدا فى تاريخ مصر، أم أنها لن يكون لها ما بعدها سوى أمل فى التغيير سرعان ما تحبطه قبضة النظام القوية على أجهزة الأمن، ومقاومته بشتى السبل للتغيير الدستورى والسياسى السلمى، الذى يعنى بالنسبة له لا أقل من انتحار سياسى لنظام لم يألف سوى تزوير الانتخابات والتعويل على ضعف ذاكرة المواطنين.
ماذا يدور فى عقل البرادعى، وما الذى يعده مستقبلوه؟
والإجابة على هذا السؤال تتوقف بداية على ما ينتويه أطرافه الأساسيون: الدكتور البرادعى من ناحية، والقوى السياسية والمجتمعية التى احتشدت لاستقباله من ناحية أخرى. وبداية لا أتصور أن المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية لا يملك رؤية واضحة لخطواته القادمة، فسجله فى الوكالة يشهد بأنه يعد جيدا لمعاركه. وقد أعد جيدا لمواجهات عديدة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وخرج منها منتصرا. أعد للمواجهة مع الولايات المتحدة بشأن برنامج نووى عراقى مزعوم، وأقر أمام مجلس الأمن بعدم وجود أى دليل على وجود مثل هذا البرنامج.. وكانت المواجهة الثانية مع إسرائيل بخصوص البرنامج النووى الإيرانى، وقد استبعد أن يكون هناك ما يشير إلى طابع عسكرى لهذا البرنامج. وكانت معركته الكبرى مع الولايات المتحدة بخصوص التجديد له فترة ثالثة كمدير للوكالة الدولية، واضطرت حكومة الرئيس جورج بوش إلى الانصياع لرغبة الغالبية العظمى من أعضاء مجلس الوكالة الذين تحمسوا لإعادة انتخابه. فهل حضر هذا المقاتل الشرس على الصعيد الدولى إلى مصر وهو خالى الذهن عن خطواته القادمة؟! هذا ما استبعده.
ولكن حتى بافتراض أن فى جعبة البرادعى كثيرا أو قليلا، فلا ينبغى اعتبار أن علاقته بمؤيديه هى علاقة القائد الملهم بالجماهير المنبهرة بقدراته الخارقة والتى لا تملك تجاهه سوى الطاعة العمياء. ينبغى أن يكون هذا الموقف فرصة لصياغة علاقة جديدة بين القائد السياسى والجماهير فى مصر تقوم على التفاعل الخلاق والندية. ومن ثم فالمسئولية الكبرى تقع على عاتق تلك القوى التى عليها أن تجتهد للتفكير فى كيفية الاستفادة من هذا الموقف، الذى تجد نفسها فيه أمام شخصية بارزة ذات قبول واسع داخل النخبة السياسية المصرية، وخصوصا فى أوساط المجتمع المدنى، وذات سمعة دولية طيبة ومهارة فريدة فى التعامل مع القوى العالمية، والأهم من ذلك أن الأفكار التى عبر عنها تلتقى مع مطالب حركات المجتمع المدنى المطالبة بالديمقراطية.
ماذا يمكن لأنصار البرادعى عمله؟
الخطوة الأولى التى يمكن لأنصار الدكتور البرادعى القيام بها هى لم صفوفهم فى إطار منظم يجتمعون من خلاله ويناقشون فيه خطواتهم القادمة..وربما يحاولون ضم قوى أخرى لهم. كانت هناك رموز وقيادات من حركة 6 أبريل، ومن حزب الغد تيار أيمن نور، ومن حركة كفاية التى غاب منسقها العام عن هذا اللقاء،ومن اللجنة المصرية لمكافحة التوريث، ومن أساتذة الجامعات أعضاء حركة 9 مارس، وكثيرون آخرون من الكتاب والفنانين والإعلاميين والقضاة والسفراء السابقين ومنظمات مكافحة الفساد، ومواطنون عاديون رجالا ونساء، شبابا وكهولا.
وكان من اللافت للنظر غياب شبه كامل لرموز وقيادات أحزاب المعارضة الرئيسية من الوفد والتجمع والحزب الديمقراطى العربى الناصرى، كما غابت قيادات حزب الجبهة الديمقراطية. وكذلك شخصيات قيادية من الإخوان المسلمين. وهذا التحديد للقوى التى احتشدت للقاء البرادعى مهم لمعرفة الأرضية التى تتحرك عليها ولاكتشاف إمكانية توسيع هذه القوى. وقد يكون من المستبعد انضمام أحزاب المعارضة الرئيسية إليها، ربما لأنها مازالت تعول ضمنا على صفقة تعقدها مع الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم تمنحها عددا محدودا من المقاعد فى الانتخابات النيابية القادمة، وتتيح لها القيام بدور الكومبارس فى الانتخابات الرئاسية، فهى لا تتطلع إلى أكثر من ذلك.
والذى تستطيعه هذه القوى هو، أولا الاتفاق على برنامج مشترك ثم السعى لترجمة هذا البرنامج إلى واقع بكسب أعداد أكبر من المواطنين إليه وتحويله إلى خطة عمل داخل المؤسسات التشريعية أولا.. بالسعى خلال الانتخابات النيابية القادمة إلى إنجاح شخصيات تلتزم بهذا البرنامج وتجعله أساس عملها فى المجلسين النيابيين.
الاتفاق على برنامج مشترك، رغم صعوبة التوافق بين قوى المعارضة وحركات المجتمع المدنى فى مصر كما علمتنا التجربة هو المهمة الأسهل نسبيا، وخصوصا وقد يسر الدكتور البرادعى نفسه هذه المهمة بما ذكره فى الحديث المهم الذى طرح فيه أفكاره مع الأستاذ أحمد المسلمانى على قناة دريم. عرض البرادعى فى هذا الحديث رؤية واضحة لأولويات الإصلاح الشامل فى مصر. وقد بدأ بالبعد الاجتماعى، عندما ذكر ضرورة الالتزام بالعدالة الاجتماعية، بل والاشتراكية، طريقا لسد الفجوة الهائلة فى توزيع الدخول والثروات فى مصر، وللنهوض بمصر على طريق التنمية الإنسانية التى تراجع عليها وضعها، أشار إلى ارتفاع نسبة الفقراء والأميين. هذه رؤية صحيحة لطريق الإصلاح ولدعوة المواطنين للنضال من أجله، فهو قضية تهم عموم المصريين بطريقة مباشرة ولا تهم فقط المولعين بالنشاط السياسى.
وثانية تلك القضايا هى ما أكد عليه من قبل من ضرورة وجود ضمانات لرقابة الانتخابات النيابية والرئاسية من خلال دور فاعل تقوم به منظمات المجتمع المدنى ووجود دولى مؤثر، ويترافق ذلك مع ضرورة تعديل الدستور وخصوصا فى المواد التى تتعلق بكيفية انتخاب رئيس الجمهورية ومدة الرئاسة والإشراف القضائى على الانتخابات وهى المواد 76 و77 و88. بتسهيل مشاركة المستقلين فى هذا الانتخاب، وقصر تولى الرئاسة على مدتين وتحقيق وتوسيع الإشراف القضائى المباشر على الانتخابات.
وقد اتخذ البرادعى موقفا واضحا من قضية شائكة، وهى حرية تكوين الأحزاب، عندما دعا إلى إسقاط القيود الواردة على تشكيل الأحزاب السياسية، وذهب إلى أن إدماج القوى الموصوفة بالراديكالية أو الثورية فى إطار النظام الحزبى هو الكفيل بدفعها إلى التخلى عن العنف طريقا للوصول إلى السلطة، وضرب المثل فى هذا السياق بتجربة الأحزاب الشيوعية فى أوروبا، والتى حولها اندماجها فى الحياة السياسية الحزبية السلمية لمجتمعاتها إلى قوى تحافظ على النظام الدستورى لهذه المجتمعات. وربما يفتح ذلك الباب إذا ما تحقق إلى وقف الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان التى تتعرض لها قيادات الإخوان المسلمين على كل المستويات، والتى لا يمكن لها فى ظل الظروف الراهنة أن تعرف متى تمارس نشاطا علنيا مشروعا ومتى يلقى بهم فى غياهب السجون بسبب قيامهم بهذا النشاط، وهو المصير الذى يعرفه الدكتور عصام العريان وزملاؤه الذين غابوا وراء الأسوار منذ أسبوعين.
كما طرح الدكتور البرادعى أفكارا مهمة بالنسبة للسياسة الخارجية المصرية لاشك أنها ستلقى كذلك توافقا بين من رحبوا بعودته. ما يسمى بعملية السلام فى الشرق الأوسط قد مات وواراها الثرى منذ زمن طويل، ومن ثم فلابد من البحث عن طريق جديد يضمن وفاء الشعب الفلسطينى بحقوقه المشروعة وجلاء إسرائيل عما تبقى من أراض عربية أخرى تحت احتلالها، وللحكومة المصرية حق مشروع فى حماية حدودها، ولكن واجبها الإنسانى هو التضامن مع الشعب الفلسطينى ودعا صراحة إلى فتح المعابر أمام الفلسطينيين أو حتى إيجاد منطقة حرة على الحدود المصرية مع غزة.
وماذا بعد الاتفاق على برنامج مشترك؟
ولكن كيف يمكن ترجمة هذا البرنامج المشترك إذا ما تم التوافق عليه إلى واقع؟ إن قوى المجتمع المدنى والشخصيات البارزة والمواطنين العاديين الذين اصطفوا للترحيب بالبرادعى لا ينتوون سوى الالتزام بالعمل السلمى طريقا للوصول إلى مجتمع الحرية والكرامة الذى يتطلعون إليه. وهذه وثبة كيفية كبرى فى تاريخ مصر يحار المفكرون فى كيفية الوصول إليها. وربما يكون التحدى الهائل أمام هذه القوى هو كيفية تحقيق هذه الوثبة.
هى مهمة ليست بالسهلة، ولكنها قد لا تكون مستحيلة إذا ما تحلت هذه القوى بالواقعية مع الإصرار على بلوغ هذا الهدف. وربما تفتح انتخابات مجلس الشعب القادمة الفرصة ليس فقط للدعوة لهذا البرنامج، ولكن لكسب أنصار له بين المستقلين حقيقة، بل وداخل الأحزاب القائمة بما فيها الحزب الوطنى الحاكم وأحزاب المعارضة. فعلى الرغم من تحفظ قيادات كل هذه الأحزاب بالنسبة لشخص البرادعى إلا أن صفوفها عامرة بمن يؤيد هذه الأفكار التى لا تبغى سوى صالح الوطن. ومن ثم تكون المهمة الرئيسية لمن رحبوا بعودة البرادعى هى دفع العناصر المؤمنة بهذا البرنامج إلى خوض هذه الانتخابات وتعبئة الرأى العام وراءها، وقد يشكل وصول أعداد مؤثرة منهم إلى مقاعد مجلس الشعب بداية التحرك الجاد لتحويل هذه الأمانى إلى واقع.
لا أتصور أن هناك طريقا آخر. وسوف تثبت الأيام القادمة ما إذا كانت لحظة استقبال البرادعى فى مطار القاهرة الخطوة الأولى على طريق الألف ميل، أم أنها خطوة وحيدة فى طريق مسدود.