نحن بكل تأكيد نقترب من مرحلة جديدة فى تاريخ المنطقة، مرحلة ربما لا تقل أهمية عن مرحلة التشكل الأول لتلك الجغرافيا المسيسة الافتراضية المسماة بالشرق الأوسط بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، أو عن مرحلة التشكل الثانى لها عقب استقلال معظم دول المنطقة من الاستعمار وزرع إسرائيل، أو تلك المرحلة الثالثة التى لعب فيها النفط دورا مهما فى تغيرات ثقافية واجتماعية وسياسية فى المنطقة كلها بالتوازى مع الصلح المصرى الإسرائيلى والثورة الإيرانية وحرب الخليج الأولى، أو حتى تلك المرحلة الأخيرة التى بدأت بحرب الخليج الثانية واتفاقية أوسلو وانتهاء الحرب الباردة لصالح الهيمنة الأمريكية المنفردة. نحن الآن على أعتاب مرحلة جديدة بدأت بثورات التغيير العربية ضد الأنظمة القمعية ومازالت متواصلة فى محاولات التغيير وسط تحولات رهيبة أكبر وأعقد من قدرة، وربما رغبة، قوى التغيير الداعمة للثورة فى متابعتها وملاحقة تطوراتها ونتائجها.
•••
هذه المرحلة الجديدة ما زالت غير محددة الملامح، كما أنها مفتوحة النهاية. ومع قيام الجيش المصرى بتوجيه ضربات عسكرية جوية وبرية إلى القوات الداعشية فى الداخل الليبى أعتقد أن الشرق الأوسط قبل الضربة سيكون مختلفا عن شرق أوسط ما بعدها. بدءا من اليوم أكتب ثلاث حلقات عن سمات هذا التشكل الجديد ومستقبله. اليوم نتحدث عن أهم محددات سلوك ودوافع دول الشرق الأوسط حاليا، بينما فى الحلقة القادمة نتحدث عن ملامح الشرق الأوسط الجديد الحالى فى التشكل عنوة عن إرادة الجميع، ثم ننهيه بسيناريوهات مستقبل هذه المنطقة فى ظل تمدد ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية أو اختصارا «داعش». فيما يلى أهم سبعة محددات لسلوك دول الشرق الأوسط فى الوقت الراهن:
أولا: الأمن أصبح أهم محدد لسلوك دول منطقة الشرق الأوسط. فلأول مرة منذ انتهاء الاستعمار يصبح «بقاء» الدولة القومية فى المنطقة مهددا بفعل مخاطر حالة داخلية وخارجية. هوس البقاء أصبح فى تقدير كثيرين من محللى سياسات المنطقة هو المحدد الأهم لسلوك دولها. صحيح هناك تباينات فى ترتيب أولويات دول المنطقة. فتركيا تبحث عن إعادة بعث إمبرطوريتها العثمانية بروح علمانية غربية، فيما تبحث إيران عن تفكيك أى احتمالات لكماشة عربية غربية ضدها، أما إسرائيل فتبحث عن استغلال تناقضات الشرق الأوسط لتعضيد وجودها وتعظيم مكاسبها، فيما تبحث مصر عن العودة إلى القيادة الإقليمية، كما تحاول السعودية ترتيب البيت من الداخل للدخول فى جولة صراع جديدة ضد إيران. وتظل دول مثل ليبيا وسوريا واليمن باحثة عن لملمة حدودها وسيادتها المبعثرة، ولكن يظل الهاجس الأمنى هو المحدد الأول لكل لاعبى المنطقة فى ظل صراعات متداخلة ومعقدة على أصعدة محلية وإقليمية.
ثانيا: صراع الهويات يأتى أيضا قيدا وعاملا فى تحديد سلوك دول المنطقة ومن ثم سيتحكم فى طريقة التشكيل الجديد للمنطقة. فالدولة القومية فى المنطقة أصبحت، بفعل تطورات قديمة بدأت منذ رسم الاستعمار لحدودها، مشتتة بين هويات دون قومية مثلما هو الحال فى سوريا والعراق وتركيا والمغرب العربى، وبين صراع هويات عابرة للقومية (تحديدا إسلامية) كما هو الحال فى معظم دول الثورات العربية. وقد قضى هذا الصراع فى تقديرى على فرصة إحياء القومية العربية وأصبحت معظم الدول تبحث عن التأكيد والتعضد بهوياتها المركزية كدول قومية فرادى لحل تلك المعضلة وذلك التشتت بين الهويتين. فإعادة بعث النعرة الهوياتية المركزية إذا أصبحت أحد محددات السياسة الخارجية لدول المنطقة وما يحدث من تحالفات أو أحلاف هنا أو هناك ليس إلا خطوات تكتيكية مؤقتة من المتوقع أن تتغير بسرعة وبشدة. ومن الخطأ التعامل معها على إنها ذات ديمومة.
ثالثا: دول المنطقة مستقطبة بشدة بين مقاومتها الطبيعية للتبعية والهيمنة الغربية بفعل ثقل حضارات معظم دولها واستدعاء معظم شعوبها لحكائية «الأمجاد الضائعة» سواء كانت قومية عربية أو إسلامية أو فارسية أو حتى عبرانية وبين نخبها المنخرطة عضويا وهيكليا فى علاقات التبعية والاعتماد التام على الغرب فى نواح اقتصادية وعسكرية وثقافية أيضا. هذا المحدد يعنى أن عامل «المقاومة للتبعية» لن يكون فقط أحد أهم محددات السياسة الخارجية لدول المنطقة وخاصة العربية منها ولكنه سيكون محكا للصراع بين حركات المقاومة الداخلية وبين النظم الحاكمة.
•••
رابعا: ارتباطا بانشغال معظم دول المنطقة بهوياتها المركزية، فإن معظم النظم السياسية للمنطقة أصبحت تعول بقوة على دعم مجتماعاتها الداخلية وتحديدا من الطبقات الوسطى وما فوقها باعتبارها الطبقات المشغلة لغيرها والمتحكمة فى الموارد والوعى السياسى أيضا وخاصة فى ظل سيطرة الأخيرة على معظم منابر قيادة الرأى العام. وفى ظل غياب آليات الديموقراطية عن معظم دول المنطقة أصبحت النظم تعتمد بشدة على دعم هذه الطبقات وانشغلت بتعبئتها السياسية لأن الأخيرة أصبحت المتحكمة فى مصيرها على الأجلين القصير والمتوسط، ولكن إلى أى مدى سينجح هذا التزاوج على حساب الطبقات الأكثر عوزا والأقل حظا؟
خامسا: أصبحت الأدوات العسكرية والدعائية «الإعلامية» فضلا عن الاقتصادية أهم ثلاث أدوات تستخدمها دول المنطقة فى تحقيق أهدافها الخارجية، مع وجود أفضلية واضحة للأدوات العسكرية فى حسم الأمور داخليا وإقليميا. فمع تركيز دول الخليج العربى وتركيا على الأداة الاقتصادية، فإن دول مثل مصر وإسرائيل وإيران وبشكل أقل تركيا أصبحت تعتمد اعتمادا كاملا على عامل الردع العسكرى سواء بأسلحة تقليدية (مصر) أو بأسلحة غير تقليدية (إيران وإسرائيل). وفى حين تمكنت إيران من استخدام ظهرائها السياسيين والعسكريين معا فى سوريا ولبنان لملاعبة أمريكا وكماشة الخليج العربى، وفى ظل اعتماد إسرائيل التقليدى على الدعم الغربى عامة والأمريكى خاصة فيبقى الجيش المصرى فى وضع خطر من ثلاث نواحٍ، فمن ناحية أولى هو الجيش العربى الكبير الوحيد الباقى بعد تراجع وتفتت الجيشين العراقى والسورى. ومن هنا فليس له ظهير إقليمى عسكرى قوى يسانده. وهو من ناحية ثانية مازال لاعبا وحيدا فى الساحة الإقليمية فى ظل موقف غربى مائع يفضل الحلول السياسية على العسكرية. وهو من هنا عرضة للتورط وحيدا فى فخاخ قد تكون معدة مسبقا. وهو من ناحية ثالثة مستنزف فى الجبهة الداخلية المصرية على أصعدة عسكرية (سيناء، الحدود الغربية، العمليات الإرهابية) وعلى أصعدة سياسية واقتصادية وهى كلها مخاطر على القيادة السياسية والعسكرية المصرية التعامل معها بجدية.
سادسا: تعانى معظم دول المنطقة، وخاصة الدول العربية، من تراجع دور القيادة الكاريزمية وهو دور تقليدى مهم وتاريخى فى الشرق الأوسط. وباستثناء دور رجب طيب أردوغان، الذى بدء يحترق تدريجيا، فإن معظم دول المنطقة بدأت تعانى من غياب قاداتها القادرين على التعبئة والحشد إما بسبب الكهولة المفرطة أو الوراثة المدللة، أو بسبب التورط فى صراعات داخلية تزيد من حدة الانقسام والاستقطاب حول شخصية هؤلاء القادة. ومن ثم مازال البحث جاريا على قدم وساق فى معظم دول الشرق الأوسط على إنتاج وصنع مثل هذه الزعامات المهمة للتعبئة والحشد على النحو السالف شرحه.
سابعا: تزايد دور الفاعلين من غير الدول فى المنطقة وخصوصا مع تنامى دور الحركات الإرهابية وتطوير قدراتها واستخدامها كورقة سياسية للضغط بواسطة لاعبين عدة على المستويين الدولى والإقليمى. ومع تزايد حدة الصراعات الداخلية والإقليمية، وفى ظل قرار غير معلن من معسكرات الإسلام السياسى فى معظمها للعسكرة والتمترس ضد ممثلى الدول القومية، وفى ظل راحة اللاعبين الآخرين لهذا القرار بحيث يتمكنوا من محاربة خصومهم التاريخيين من معسكرات السلاح لا من معسكرات السياسة، تصبح المعادلات فى منطقة الشرق الأوسط كلها صفرية لتقاد المنطقة إلى حافة الهاوية.
•••
كيف إذا تؤثر محددات هوس البقاء الوطنى، ونعرات الهوية المركزية، والمقاومة الشعبية للتبعية الغربية، وتعبئة الطبقات المتوسطة وتعاظم الأدوات العسكرية ودور الجيوش مع تراجع دور الزعامات الكاريزمية وتزايد دور اللاعبين من غير الدول ولاسيما المنظمات الإرهابية على شكل الشرق الأوسط الجديد؟