بينما تترنح أوكرانيا تحت وطأة حربٍ لم تُحسم منذ أكثر من ثلاث سنوات، تلوح فى الأفق مبادرة جديدة للسلام يقودها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، تعِد بوقف إطلاق النار، لكنها تضع أثمانًا سياسية باهظة على طاولة التفاوض. المبادرة التى طُرحت فى باريس وتناقش الآن فى لندن، تقوم على ثلاث ركائز أساسية: الاعتراف الأمريكى بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، إخضاع محطة زابوروجيا النووية الأوكرانية التى تحتلها روسيا لإشراف أمريكى مباشر، ومنع انضمام أوكرانيا إلى حلف (الناتو).
فى ظاهرها، تبدو الخطة وكأنها مقايضة بين وقف القتال وتنازلات جغرافية واستراتيجية. لكنها فى جوهرها تطرح أسئلة كبرى حول موقع أوكرانيا فى المعادلة الدولية، وموقف الولايات المتحدة من القانون الدولى ومبدأ سيادة الدول.
***
الركيزة الأولى لخطة ترامب، وهى الاعتراف بالقرم كجزء من روسيا، تمثل تحولًا جوهريًا فى الموقف الأمريكى الذى ظل، منذ 2014، يعتبر الضم الروسى غير شرعى. هذا الاعتراف لا يُعد فقط مكافأة سياسية للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، بل أيضًا سابقة خطيرة فى العلاقات الدولية، تعزز منطق فرض الواقع بالقوة.
أما الركيزة الثانية، فهى اقتراح إنشاء منطقة محايدة حول محطة زابوروجيا النووية ــ الأكبر فى أوروبا ــ تحت إشراف أمريكى. فى ظاهرها، تأتى هذه الخطوة كوسيلة لضمان الأمن النووى، لكنها تطرح تساؤلات حول السيادة الأوكرانية ومستقبل السيطرة على منشآت حيوية. كيف سيتم تنفيذ هذا الإشراف؟ هل سيكون بوجود فنى أم عسكرى؟ وما حدود النفوذ الأمريكى فى تلك المنطقة؟
أما العنصر الثالث فى الخطة ــ استبعاد أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو ــ فيُعد بمثابة تنازل استراتيجى كبير للكرملين، الذى طالما اعتبر اقتراب الحلف من حدوده تهديدًا مباشرًا. هذا البند لا يضمن فقط حرمان أوكرانيا من المظلة الأمنية الغربية، بل يتركها عرضة لتجاذبات القوى، بين روسيا الطامحة للتوسع والغرب المتردد فى الحسم.
ما يُثير القلق أن الخطة، وفق ما نُشر فى وسائل إعلام غربية مثل «وول ستريت جورنال» لا تتضمن أى التزام روسى بالانسحاب من المناطق التى احتلتها منذ 2022، ولا تُطالب بإعادة المهجّرين الأوكرانيين. بل تتعامل مع خطوط التماس الحالية كأمر واقع يمكن البناء عليه.
رد كييف كان حذرًا. ففى الوقت الذى نفت فيه وزارة الدفاع الأوكرانية إعطاء أى موافقة ضمنية على الخطة، أكدت أن أى اتفاق سياسى يجب أن يصدر عن القيادة المدنية. الرئيس فولوديمير زيلينسكى أعلن تمسكه بمبادئ السيادة الكاملة لأوكرانيا، رافضًا الاعتراف بأى ضم أحادى أو اقتطاع لأراضٍ أو تخلٍ عن طموحات الانضمام للناتو.
***
حتى الآن، تبدو فرص نجاح مبادرة ترامب محدودة، لا بسبب الرفض المبدئى لبعض بنودها فحسب، بل لأن البيئة السياسية والعسكرية لا تزال غير ناضجة لتسوية شاملة. فموسكو لم تُظهر أى استعداد فعلى لتقديم تنازلات، وكييف لا تستطيع سياسيًا أو شعبيًا القبول بتسويات تمس وحدة أراضيها. كما أن واشنطن، رغم ضغوطها، لم تُقدِّم ضمانات حقيقية كفيلة بإقناع الطرفين، ناهيك عن التباين فى المواقف الأوروبية الذى يُضعف الزخم الدبلوماسى العام.
فى المقابل، عبّر ترامب وإدارته عن نفاد صبر واضح. وزير الخارجية ماركو روبيو أعلن أن «الوقت يداهم الجميع»، وأن الولايات المتحدة لن تستمر فى الجولات الدبلوماسية إذا لم تُلمَس خطوات جدية من الطرفين. هذا الضغط يُفسر على أنه محاولة لدفع كييف نحو قبول تسوية قاسية، مقابل وعود بإعادة الإعمار و«شراكات اقتصادية مربحة».
***
فى النهاية، تحمل هذه المبادرة ملامح صفقة أكثر منها خطة سلام. صفقة تعيد تشكيل الحدود والتحالفات الإقليمية، من دون ضمان العدالة، أو التعويض، أو حتى الأمان. السلام ليس تجميدًا للصراع على خطوط النار، ولا ينبغى أن يُفرض من فوق رؤوس المتضررين، بمنطق هندسى لا يرى فى الشعوب سوى تفاصيل زائدة.
وإذا كانت أوكرانيا اليوم تُساق إلى تسوية تنال من سيادتها، فإن ما يفعله ترامب لا يختلف كثيرًا عمّا فعله حين حاول إعادة هندسة غزة وفق خريطة استثمارية تحت مسمى «ريفيرا غزة».
فى الحالتين، يغيب صوت أصحاب الأرض، وتُحاك الحلول فى غرف مغلقة، ويتكرر السؤال نفسه: هل هذه تسويات للنزاعات، أم صفقات تُفرض بالسقف المنخفض لميزان القوى؟