يلهث الصحفيون وراء السبق الإخبارى، ويتنافسون فى الوصول إلى مواقع الأحداث التى تشغل الناس.. هذا هو الواقع فى جميع أنحاء العالم، غير أن ما يحكم عمل الجميع هو التسلح بأدوات مهنية يستخدمها الصحفيون المحترفون للتفرقة بين الغث والسمين، ومعرفة الخبر الصادق من الكاذب، والتأكد من كل معلومة، قبل النشر فى ظل بيئة تشريعية تحفظ للصحفى حقوقه فى تداول المعلومات والحصول عليها عند الحاجة، ومن دون عوائق.
هذا ما يحدث فى جميع البلدان التى مرت بقدر من التطور، وراكمت صحافتها عبر الأيام خبرة تتناقلها الأجيال، وترعاها نقابات ومنظمات تقوم على مصالح الصحفيين، لا تحركها أهواء، ولا تتحكم فيها قلة من المنتفعين الذين تضيق صدورهم بفتح الأبواب والنوافذ أمام حرية النشر وتداول المعلومات، ومد القراء بكل كبيرة وصغيرة تدور فى مجتمعاتهم المحلية، ونقل ما يجرى حولهم من أحداث فى العالم الفسيح.
للأسف، هذه القواعد المتعارف عليها فى عمل الصحفيين، والتى تعلمناها فى مدرجات كلية الإعلام جامعة القاهرة قبل ثلاثة عقود، تصارع الآن متغيرات، وتواجه تحديات تستدعى من القائمين على شأن الصحف عدم الانجرار وراء ما يشكل تهديدا خطيرا لمهنتهم، ويفتح بابا لاختلاط الحابل بالنابل فى عصر «السوشيال ميديا»، وصحافة «الترند» التى تتغافل فى كثير من الأحيان عن معايير نشر الأخبار، وتقع فى مستنقع الشائعات ولا نقول النميمة.
وحتى لا يكون ما أتحدث عنه مجرد كلام نظرى عن الصحافة وهمومها، أقول إن غالبية المواقع الاخبارية، وبينها تلك التى تخرج من صحف كبرى تحظى بالمصداقية، حفلت يوم السبت الماضى برواية قصة لفتاة من مركز منيا القمح محافظة الشرقية، تعمل ممرضة، زعمت خلالها أنها أنقذت سيدتين وأربعة أطفال من الغرق بعد أن سقطت السيارة التى كُنَّ يَسْتَقْلِلْنَهَا فى إحدى الترع.
وفى اليوم التالى نشرت عدة صحف ورقية القصة ذاتها مصحوبة بكيل من المديح «لبطلة الشرقية» والفتاة المصرية التى برهنت على أنها «أخت الرجال» وإلى غير ذلك من أوصاف، بعد أن سارعت رئيسة المجلس القومى للمرأة الدكتورة مايا مرسى بتوجيه الشكر للفتاة، على صفحتها على موقع «فيس بوك»، والإشادة بالفعل البطولى لـ«بنت منيا القمح... بطلة الشرقية... بطلة الجمهورية... البنت المصرية الجدعة الشجاعة».
وعقب انتشار القصة كالنار فى الهشيم، من خلال تقارير مكتوبة ومقاطع فيديو «للبطلة»، اتضح كذب ما ادعته تلك الفتاة، بعد أن ورطت ثلة من المراسلين الصحفيين، بقصة مزيفة، تقدم نموذجا عمليا للحال التى وصلت إليها صحافتنا، وبعد «وقوع الطوبة فى المعطوبة» كما يقول المثل، تواصل السادة المراسلون مع الأجهزة المعنية التى أكدت عدم تلقى مركز شرطة منيا القمح أية بلاغات بشأن واقعة سقوط سيارة فى ترعة.
بدوره، وفى اليوم التالى لنشر القصة المزيفة، أكد أشرف عامر، رئيس مركز ومدينة منيا القمح، فى تصريحات صحفية عدم صحة الواقعة، الأمر نفسه أكده أهالى المنطقة التى زعمت «بطلة الشرقية المزيفة» أنها كانت مسرحا للأحداث، قائلين إنه «لا صحة تمامًا لهذه الواقعة التى اختلقتها الممرضة».
والسؤال هنا أين كان عقل الزملاء المراسلين ومن يتلقون تقاريرهم فى مطابخ الصحف والمواقع الاخبارية؟ ألم يكن فيكم رجل رشيد يلجأ إلى أبسط القواعد المهنية ويسأل: أين باقى أركان القصة، وأين رواية الأشخاص الذين أنقذتهم؟ ألم يكن مطلوبا التوجه إلى مكان الحادث لتقديم بث مباشر من هناك، كما فتحتم كاميراتكم لصاحبة القصة؟.. والسؤال أيضا للمجلس القومى للمرأة هل هكذا تخرج التصريحات، من دون التأكد من الوقائع، عوضا عن حذف المنشورات فى وقت لاحق؟!
ربما يجادل بعض المتحذلقين الذين يقودهم منهج الإثارة «ممن تستوى معهم الصحافة وصفحات الفيس بوك» بسؤال: ماذا يفعل الصحفى بخبر مهم لكن لم يتم تأكيده من مصدرين اثنين على الأقل؟!... ولهؤلاء نقول: تأجيل النشر أو البث، لحين التأكد مما لدينا من معلومات، أفضل ألف مرة من التورط فى نشر وبث قصص «مزيفة» من أجل ركوب الترند، قبل الاعتذار للقراء عن خطأ مهنى.