«الشروق» ترحب بانضمام الدكتور محمد أبو الغار إلى فريق كتابها..
أبو الغار ورغم كونه طبيبًا نابغًا ومتميزًا كأستاذ فى طب النساء والتوليد ورائدًا فى مجال التخصيب وأطفال الأنابيب، وحصل على جوائز محلية وعالمية، فإنه شارك فى الحياة السياسية، وكان أحد كبار مؤسسى الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، وهو أيضًا كاتب متميز يكتب فى الشئون العامة، وله العديد من الكتب المهمة، منها: «يهود مصر فى القرن العشرين: كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟" و"الفيلق المصرى" و"الوباء الذى قتل 180 ألف مصرى" و"على هامش الرحلة" و"أمريكا وثورة 1919".
الهوية ليس لها تعريف محدد، لكنها مصطلح يجمع بين شعور بالانتماء، له جانب ثقافى وجانب سياسى واجتماعى ودينى. يجمع الكثيرون على أن ظروف مصر التاريخية والفترة الطويلة التى قضاها المصريون تحت قبضة حكم أجنبى اختلف من مستعمر إلى آخر، أعطى إحساسًا بعدم وجود واضح للهوية المصرية خلال عدة قرون، وكانت للمصريين هويات متعددة تعتمد على وضعهم الثقافى والاجتماعى والمادى، ولا تجمع المصريين جميعًا فى بوتقة واحدة.
يتفق الكثيرون على أن الهوية المصرية تبلورت بوضوح ودقة شديدة أثناء وبعد ثورة ١٩١٩ حين توارت الهويات المتعددة الثقافية والاجتماعية والمادية والدينية، وتوحدت كلها فى هوية واحدة وأصبح لها اسم واحد، وهو الهوية المصرية، وبالرغم من أن الهوية المصرية قد تبلورت بوضوح منذ ١٩١٩، فإن تيارات مختلفة ظهرت فى مصر حاولت أن تغير مجرى الهوية المصرية، فهناك تيار العروبة الذى ظهر فى الفترة الناصرية والذى صحبته دعاية قوية وآمال وأحلام كبيرة عن وحدة العرب، وارتفعت النغمة بشدة فى فترة وحدة مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة حتى إن اسم مصر قد اختفى من اسم الدولة، واستمر ذلك لسنوات بعد انفصال سوريا عن مصر، هذه الفترة لها مفكروها من المصريين والعرب، لكن صوت السياسة وقوة تأثير عبدالناصر أعطيا للتفكير العروبى دفعة قوية، وخلال هذه الفترة كان الخطاب فى الصحافة والرواية وحتى السينما والمسرح يتحدث عن هوية مصر العربية، لكن بعد هزيمة ١٩٦٧ وبعد تفكيك العلاقات العربية والمظهر الضعيف لجامعة الدول العربية بدأ غطاء الهوية العربية ذات الصوت الزاعق الذى غطى على الهوية المصرية والذى استمر ثلاثة عقود على الأقل بعد الفترة الليبرالية يتفتت، وبالرغم من بقاء بعض الانتماء العربى فى الهوية المصرية، فإنه فقد بريقه ولم يبقَ منه سوى تأثير اللغة التى تجمع العرب جميعًا، وهى مكون مهم فى الهوية.
وفي تاريخ مصر الحديث كانت هناك روافد من التاريخ الفرعونى يعتقد البعض أنها تؤثر على الهوية المصرية، وبالرغم من إعجاب المثقفين المصريين بالتاريخ الفرعونى وعظمته فإن هناك أمورًا منعت هذا التاريخ العظيم من التأثير على الهوية المصرية، وأولها أن هذا التاريخ شديد القدم وقد تمت تغطية معظم هذه الآثار بالرمال لفترة تعدت آلاف السنين، وفقد المصريون التواصل تمامًا مع هذا التاريخ، ولم يعرفوا عنه شيئًا، ثم جاء علماء الآثار من الغرب فاكتشفوا عظمة هذا التاريخ، وبالرغم من الزهو الشديد للمصريين بهذا التاريخ فإنهم لم يشعروا بأنهم ينتمون إلى قدماء المصريين، هم فقط عرفوا عنهم بعد أن اكتشفهم الخواجات، وأعجبوا بهم ولم يتفهموا سبب هذا الإعجاب فى البداية وزاد الأمور صعوبة هو ما أشيع أن التماثيل حرام فى بعض التفاسير الإسلامية، وسمى المصريون أعمال القدماء الخالدة بالمساخيط.
بعد ثورة ١٩١٩ بدأ بعض المثقفين المصريين من الكتاب الاهتمام بأعمال قدماء المصريين، فكتب محمد حسين هيكل قصتين قصيرتين فى عام ١٩٢٥ عن إيزيس وهاتور، وفى بدايات نجيب محفوظ كتب رواياته عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة، وجميعها عن المصريين القدماء. وتوفيق الحكيم نشر روايته عودة الروح، وفى الصفحة الأولى منها نشيد «كتاب الموتى»، وفى مسرحية شهرزاد تظهر إيزيس الفرعونية تخاطب شهرزاد العربية. وفى العصر الحديث بعد انتشار وتوسع ما يكتب من الحضارة المصرية القديمة وزيارات تلاميذ المدارس للمعابد وتفتح العقول، فبدأت الحضارة المصرية القديمة تأخذ على استحياء جزءًا بسيطًا من الهوية المصرية، لكنه لم ينصهر بعد ليصبح مكونًا أساسيًا من الهوية.
الدين يكون جزءًا من الهوية، ومع صعود التيار الإسلامى خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين بدأ الدين يحتل جزءًا كبيرًا من هوية المصريين، وينطبق ذلك على المسلمين والمسيحيين، حتى أصبحت الهوية المصرية عند نسبة كبيرة من المصريين يطغى عليها المكون الدينى حتى وصل الأمر إلى أن يكتب البعض فى خانة الجنسية فى أى استمارة مسلم أو مسيحى، بدلًا من مصرى، وطغيان الدين على الهوية مشكلة كبرى تضعف الهوية وتضعف الجانب الوطنى والانتماء الذى هو جزء أساسى من الهوية الوطنية للإنسان. هذا الطغيان الدينى على الهوية يفقد المواطنة والوطنية، ويصبح هناك نوع من الأممية الإسلامية كما كانت الأممية الشيوعية تدعو إلى أن يفقد الإنسان موطنه ليصبح جزءًا من كيان عالمى.
وهناك تيار آخر ظهر، وأحدث تأثيرًا فى الهوية المصرية خاصة بين طبقات المتعلمين هو تأثير أوروبا أو ما يسمى بحضارة البحر المتوسط. نشر طه حسين كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» عام ١٩٣٨، وناقش قضية هوية المصريين الثقافية، وأن المصريين قد تأثروا بالغرب منذ عصور بعيدة من الحضارة الهيلينية والرومانية، واعتبر طه حسين أن هناك مكونًا ثقافيًا يجمع بين شعوب البحر المتوسط بعيدًا عن اللغة ووحدة الجنس، ودعا إلى دراسة اللغات الأوروبية القديمة والحديثة والاتصال بأوروبا والأخذ بأسباب الرقى التى أخذت بها، وقال إن المسلمين أخذوا بحضارة الروم والفرس، وقال إنه لا خوف على شخصيتنا القومية وعلى ميراثنا، ويجب ألا ننكر أنفسنا وتاريخنا ونجحد ماضينا، ولا أن ننفر من الأوروبيين. وأن العقل الشرقى هو الذى مهد للعقل الذى ازدهر فى أوروبا، وهو مصدر حضارتها التى نريد أن نأخذ بأسبابها.هذا التيار أحدث تأثيرًا عظيمًا على حياة المصريين، فهم يتعلمون على الطريقة الأوروبية وجامعاتهم تسير على نفس المناهج وطريقة الأكل والشرب ونمط الحياة ودخول التكنولوجيا قد أثر كثيرًا على حياة المصريين، لكن هناك شكًا كبيرًا بأن يكون ذلك قد أثر على الهوية المصرية التى تتصرف فى الحياة اليومية، مثل الأوروبيين، لكن طريقة التفكير والإحساس الوطنى لم يتأثرا بهذا التيار، بحيث يغير الهوية المصرية.
وكتاب الأستاذ صبحى وحيدة فى أصول المسألة المصرية (١٩٥٠) الذى تعمق فى جذور فلسفة تاريخ ودرس وحلل الشخصية المصرية من الناحية الاقتصادية والتاريخية رافد مهم فى دراسة الهوية المصرية.
يبقى تأثير حركة الضباط الأحرار عام ١٩٥٢ والتغيرات الجذرية السياسية والاقتصادية التى حدثت أثناء حكمهم، وتحتاج إلى دراسة وتحليل لنعرف تاثيرها على الشخصية المصرية والهوية المصرية.
هوية المواطن وانتماؤه فى كل مكان فى العالم أمر مهم تهتم به الدول والمواطنين، بتقدم الزمن أصبحت هويات الدول الأوروبية شديدة التقارب فى كل الامور المهمة، لكن تبقى فروق بسيطة، فالأكل والطبيخ والنبيذ جزء مهم إضافى للهوية الفرنسية ومقاهى شرب البيرة ومشاهدة مباريات كرة القدم فى الملاعب جزء من الهوية البريطانية.
الهوية المصرية التى نضجت بعد ثورة ١٩١٩، وأصبحت واضحة تعرضت لضغوط مختلفة خلال النصف قرن الماضى، وإن ما زالت تحتفظ بجزء مهم منها.
هناك أهمية كبرى فى وجود هوية للمواطنين تجمعهم، ووجودها أحد أسس التقدم والازدهار.