السلام عليكم - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:34 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السلام عليكم

نشر فى : الخميس 24 سبتمبر 2020 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 24 سبتمبر 2020 - 9:55 م

في اللحظة التي انسابت فيها السيارة التويوتا إلى داخل جراچ العمارة- تنفس الباشمهندس سمير الصعداء، غريب أن تنساب سيارة أليس كذلك؟ بلي، لكن كان هذا إحساس صاحبنا وسائقه يتزحلق على مهبط الجراچ بينما هو لا يكاد يصدق أن رحلته انتهت. ساعتان لا دقيقة أقل ولا دقيقة أزيد وهو محشور في الطريق من عمله في التجمع الخامس إلى مسكنه في الهرم، كان ماله مقر الدقي؟ هذا السؤال الخالد يكرره على نفسه من نحو عام عندما انتقل مقر شركته الكبيرة من الدقي إلى التجمع، الكل ينزح إلى التجمع الناس والنشاط والترفيه والأضواء حتى أنه عندما أبدى امتعاضه من الانتقال للمقر الجديد للشركة نظر له مديره في دهشة قائلا: ده إحنا آخر ناس ننقل، فعلاً لم يبق أحد خارج التجمع؟ ران صمت عجيب. قبل الانتقال أو التعسيف بلغة شباب هذه الأيام كان الطريق من الهرم للدقي يستغرق ما بين ثلث ساعة إلى نصف ساعة، الآن لا أفق زمنياً ولا توقعات، يبدأ الطريق ويصل حسب التساهيل. وليت الأمر اقتصر على ذلك، مع الكورونا يفضل سمير عدم تشغيل المكيف حتى لا يعيد تدوير الهواء في السيارة مختلطاً بأنفاس السائق، وهكذا اعتاد أن يقضي رحلته اليومية ووجهه خارج النافذة بحثاً عن نسمة .
***
ترك للسائق حقيبته الجلدية وكيس العنب وطار بالمصعد إلى شقته في الطابق الثالث، لو أن أحداً فتح رأسه في هذه اللحظة لوجدها مغمورة بماء الدش البارد يمسح كالطوفان آثار اليوم.. يوم الثلاثاء، تهكم على عمرو دياب الذي غنّي لهذا اليوم مع أنه يوم بلا معني، لا هو أول الأسبوع والطاقة مازالت في ذروتها ولا هو نهاية الأسبوع المشحونة ببرامج العطلة وفعل اللاشئ. من بعيد لبعيد التقط أشياءه من السائق وأكّد عليه ألا يتأخر غداً عن السابعة صباحًا، أبداً لم يتأخر السائق عن موعده وهذه إحدى فضائله القليلة لكن الباشمهندس ورث عن أمه الإلحاح على تأكيد المؤكد. لم تعد زوجته من العمل ولا الأولاد من المدرسة، هي إذن فرصة ليطيل الاستمتاع بالدش البارد إلى أقصيييييي مدى.. يا سلام آه يا سلام.. يا سلام ع الميه. قبل أن يغرق في شبر أو أشبار ميه، لو صح القول، تناهى إلى سمعه حوار يأتي من الشرفة، انتبه.. أصغي.. خاف. من خلف الستائر الشفافة والزجاج رأي عدة أشباح تتحرك.. خفق قلبه بشدة حتى تصور أن الجيران سيحتجون عليه ويطالبوه بأن يخفض صوت النبضات. تقدم خطوة خطوة وجسمه كله يرتعش، سورة الكرسي على لسانه والموبايل في يده استعدادا لطلب النجدة أما الماء الذي كان يملأ رأسه فقد جف تماماً فيما تراقصت عشرات الأفكار السوداء وذهبت في كل اتجاه.
***
وقف أمام الشرفة تماما فوجد رجلين يمسكان بفرشتين ويطليان الجدران باللون الأوف وايت بينما وقفت خارج الشرفة سقالة كأنها بساط الريح ينتظر أن يتما مهمتهما، كيف لم يدرك أن هذه السقالة التي شاهدها من قبل في الدور الثاني سوف تصعد إليه؟ في الحقيقة حتى لو أدرك ذلك ما كان له أن يتخيل هذا السيناريو.. السكان في الداخل وفي الشرفة عمال مجهولون. بعد أن امتص الصدمة واختلط عرق الإرهاق بعرَق الخوف كان أمامه إما أن يثور وينفعل أو يأخذ الموقف بروح فكاهية، لم يحب أن يشق العرَق مجرى جديداً على جبينه بسبب الانفعال وقرر أن يتعامل مع الموقف كأنه مزحة. أزاح الستائر الشفافة ورسم ابتسامة عريضة على شفتيه: السلام عليكم منورين يا رجالة! تهتهات كثيرة واعتذارات وأسَف لاقتحام بيته بدون استئذان، لكن لابد مما ليس منه بد، هما ضيفاه وهو شخص كريم وربنا موسعها عليه. شايكم إيه يا رجالة؟ لم يترددا في قبول الدعوة وإن هي إلا لحظات وكان أمامهما كوبان من الشاي الأسود الممزوج بالنعناع وإلى جانبه بعض البسكويت، لكن ماذا بعد؟ بالتأكيد لن يستطيع أن يأخذ الدش الذي حلم به طيلة ساعتين كاملتين، ولابد من التمهيد لزوجته والأولاد منعاً لأي إحراج، انتحى جانباً ونجح في امتصاص ثورة زوجته بعد لأي وفِي الحقيقة معذورة. لكنه هو المحشور بين شقين فراح يدعوها لأن تنظر لنصف الكوب الملآن عندما تنتهي عملية الطلاء وتصبح الشرفة زي الفل كيوم اشتريا الشقة بالضبط، أما عندما ينتهي طلاء واجهة العمارة بالكامل ثم واجهات كل العمارات القديمة المجاورة فسوف تحدث نقلة حضارية لمئات الأسر في شارع الهرم الرئيسي .
***
توطدت علاقة الباشمهندس بعاملّي الطلاء، توطدت إلى حد أن العلاقة بين ثلاثتهم لم تنقطع حتى بعد انتهائهما من العمل وانتقالهما من شرفة لأخرى ومن طابق لآخر، أكثر من ذلك صار العاملان حلقة وصل بين صاحبنا وعدد أكبر قليلاً من عمال الشارع أخذوا يترددون عليه ويدخلون البيت من بابه وليس كما حدث في المرة الأولى، وبعد السلام عليكم يعزمهم على الشاي في أكواب البلاستيك كالمعتاد، ولولا أن توقيت ضيافتهم كان يتصادم عادة مع موعده مع الميه التي تروي العطشان وتطفي نار الحران لأصبح كل شيء على ما يرام فهو بطبعه شخص ودود وهم مصدر معلومات له عن خطة طلاء الحي. أما الشيء الذي لم يكن يحسب حسابه فهو عندما انتهى العمال من عملهم فذهبوا وانقطعت عنه أخبارهم شهورا طويلة. كان يتناول الغداء مع زوجته والأولاد لا حس ولا خبر على غير عادتهم حتى سمع صوت فكه يلوك الطعام فمضى يأكل بلا شهية. فجأة وبدون مناسبة تذكّر العاملين وأصدقائهما وحنّ إلى الونس الذي كانوا يشيعونه بثرثرتهم وعشمهم وابتسامات الرضا يوزعونها ذات اليمين وذات الشمال. استرق النظر إلى الشرفة إياها بطلة موقعة الطلاء والذكريات فلم يجد أحداً فيها ولا كانت هناك سقالة، تحركت مشاعره وتمتم بصدق: لكم وحشة يا رجالة !

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات