قبل أسبوعين وقفت أتأمل فى الوجوه التى توافدت على مسجد الرحمة فى شارع صبرى أبو علم بوسط القاهرة لوداع عمر مرسى، أحد أنبل أبناء جيل السبعينيات الذين قادوا الحركة الطلابية خلال فترة حكم الرئيس السادات.
رأيت الكثير من الوجوه التى أعرفها وإلى جورها وجوه أخرى تنتمى لمختلف تيارات العمل الوطنى جاءت لوداع عمر مرسى الذى لم يكن زعيمًا أو قائدًا يشار له بالبنان، لكنه كان إنسانًا سمحًا واسع المعرفة طيب القلب يصدق فيما يعتقد ويتصرف على أساس هذا الاعتقاد.
استحق الراحل هذا الإجماع على استقامته الأخلاقية ونبله الذى أبعده عن واجهات العرض والصفقات لفترة تزيد عن 40 عامًا قضاها كلها فى منطقة زينهم مطمئنًا للظل الذى صنعته علاقات الود والإخاء مع بسطاء الناس.
استفاد عمر من الفلسفة التى درسها وعلمها فى تطوير وعى من حوله وجذبهم إلى ما يعتقد فيه حول ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية.
من حسن الحظ أننى عرفته خلال فترة مبكرة من حياتى قبل أن أنهى دراستى الجامعية فترة التسعينيات، فقد أخذنى إلى بيت الصديق سعيد عكاشة الباحث المعروف الآن فى الشئون الإسرائيلية.
وشأن كل البيوت النوبية وجدت بيتًا نظيفًا أكرمنا صاحبه قدر ما يستطيع وحين تركنا فى غرفته المليئة بالكتب عاد ليجدنى أقلب فى كتاب من تأليف الدكتور أحمد عبدالله رزة، ولما أخبرته عن إعجابى الكبير بالمؤلف الذى حضرت له ندوة بالجامعة اتصل به قائلا: «عندى معجب عايز يشوفك».
دبر لى موعدًا فى شقة رزة عند حديقة الحيوان لتبدأ صداقة طويلة امتدّت معه إلى أن غادر ومات فى مفارقة درامية مؤلمة.
بعد سنوات من هذا اللقاء بدأت علاقة من نوع آخر تمثلت فى مشاركته فى تجربة عمل كانت الأولى فى حياتى داخل مركز المحروسة للنشر وهناك التقيت مع أصدقاء آخرين يقودهم الناشر فريد زهران مدير الدار الذى ترك لعمر مرسى مسئولية تحرير نشرة أسبوعية حول اتجاهات الرأى.
بدا واضحا أنه يمتلك مهارات الكتابة الصحفية وإعادة الصياغة كأفضل ما يكون فى وظيفة (المحرر) القادر على التقاط الفكرة وتقديمها بشكل مكثف لا مجال فيه لأى كلمة فى غير مكانها وفهمت بعدها أنه مارس العمل الصحفى فى صحيفة خليجية لكنه عاد بعد فترة قصيرة بسبب مشاركته فى تنظيم إضراب للمطالبة بحقوق الصحفيين، وواجه كما هى العادة فى تلك الوقائع بعض صور التخلى والخذلان دفعته للعودة والتوقف عن العمل الصحفى المباشر واستلام وظيفته كمدرس فلسفة، ثم طلب إجازة مفتوحة استمرت طويلا.
كانت المحروسة بمثابة ورشة عمل حقيقية تموج بالأفكار الطازجة ومختبرا يجمع بين رؤية جيلين مختلفين، الأول هو جيل السبعينيات بخبراته المتعددة والثانى جيل التسعينيات الذى انتميت إليه وكان فى معظمه بلا خبرات لكنه يملك الكثير من الشغف والحماس والإيمان بالمعرفة أكثر من أى شىء آخر.
خلال 4 سنوات عملت فيها إلى جواره بدأت اكتشافه عن قرب ولمست فيه وجهًا إنسانيًا فريدًا عكس الشخصية النوبية بسماتها التى أعرفها، النظافة والمهارة والتسامح والاعتزاز بالذات، أضف إلى ذلك ثقافة سياسية رفيعة ومعرفة فلسفية بلا حدود وذائقة أدبية نادرة.
كما لمست تعصبه الكروى وهو لم يخجل أبدًا من إعلان عشقه لنادى الزمالك عشقًا بلا حدود قاده أحيانًا إلى خصومات ونزاعات عكست بساطته أكثر من أى شىء آخر.
وكان يقول دائمًا «ناقشنى فى أى حاجة لكن الكورة لأ»!
ظلت (روحه فى مناخيره) لكن الجميع كان يعلم طيبته ويراهن على أن قلبه الأبيض يغفر له دائمًا ليعود بعد أى خلاف إلى طبيعته الخجولة.
ورث عمر عن أستاذه وصديقه أحمد عبد الله رزة الحماس الزائد والإيمان بالتنمية وأهمية العمل مع الشباب، وحاول إنقاذ مركز الجيل الذى أسسه رزة والحفاظ عليه وفعل كل ما يستطيع فى سبيل أن يواصل المركز أداء دوره فى رعاية أبناء زينهم وعين الصيرة لكن الظروف ظلت أكبر من طاقته التى تبددت فى ظل الصراعات التى أوقفت نمو هذا الكيان الفريد.
وحين جاءت ثورة يناير 2011 نزل عمر مرسى مرة أخرى إلى الميدان وجلجل صوته بعدها فى 30 يونيو، التى كانت آخر المناسبات التى أمدته بالأمل، وفى البوستات الأخيرة التى كتبها قبل موته جدد التزامه بدعم النضال الفلسطينى فى غزة ومواجهة العدوان الإسرائيلى، لذلك فإن موته المباغت جدد الشعور بنكبة اسمها انكسار الأمل، فقد مات بعد أن غلبه الوجع وهزمه الشعور بالخذلان.