الشرق الأوسط ـ لندن: جنرال العقوبات الاقتصادية - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:40 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشرق الأوسط ـ لندن: جنرال العقوبات الاقتصادية

نشر فى : الثلاثاء 25 يونيو 2019 - 9:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 25 يونيو 2019 - 9:55 م

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «غسان شربل» وجاء فيه:

حبس العالم أنفاسه حين اجتمع الرئيس دونالد ترامب بأركان إدارته لبحث الرد على قيام إيران بإسقاط طائرة أمريكية مسيرة. وكان من حق العالم أن يقلق، فقد سبقت الحادثة ممارسات وتحرشات مباشرة أو بالواسطة استهدفت ناقلات وأهدافا مدنية. وبدا واضحا أن إيران ابتعدت عن سياسة «الصبر الاستراتيجى»، واختارت دفع الأزمة فى اتجاه حافة الهاوية. ثم إن من حق المراقبين أن يشعروا بالقلق حين يكون القرار فى يد رجلين يصعب التكهن مسبقا بردودهما. الأول هو ترامب، وهو قبطان لا يسهل التكهن سلفا بأسلوب تعامله مع العواصف، ويملك قدرة استثنائية على مفاجأة مستشاريه، ومعهم العالم. والثانى المرشد على خامنئى الذى يصعب عليه، خصوصا فى هذه المرحلة، التساهل فى أمر صورته وصورة بلاده.

لم تعد الصورة غامضة حول ما دار فى الاجتماع المثير. كان واضحا أن وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى ومديرة «سى آى إيه» يؤيدون إيفاد رسالة عسكرية تعيد تذكير إيران بالخطوط الحمر التى يتعين عليها ألا تتخطاها فى تحديها للولايات المتحدة. لكن كبير الجنرالات طرح سؤالا عما ستفعله أمريكا إذا ردت إيران على الرسالة بتوسيع دائرة التحرشات فى المنطقة. ولأن الذهاب بعيدا فى تبادل الضربات يحمل فى طياته إمكان الذهاب إلى حرب واسعة، اختار الرئيس اللجوء إلى سلاح الصبر لإعطاء طهران «فرصة أخيرة».

لا غرابة فى الأمر. ترامب ليس جنرالا يحلم بالانتصار فى حرب، وهو ليس مدنيا يخفى تحت ثيابه جنرالا. جاء سيد البيت الأبيض من قاموس آخر: قاموس الصفقة والتسوية. ثم إنه كان كثير الاهتمام باستعادة الجنود الأمريكيين من مناطق الاشتباك، أى سوريا وأفغانستان والعراق. قراره بالانسحاب من شرق سوريا بعد هزيمة «داعش» أثار قلق مستشاريه وحلفائه الأوروبيين الذين مارسوا عليه ضغوطا كبرى لإرجاء موعد تنفيذ قراره، وهو ما اضطره إلى التجاوب. يعتقد ترامب أن بلاده تملك أسلحة أخرى غير القاذفات والمدمرات؛ تمتلك سلاح العقوبات الاقتصادية، وهو لا يتردد فى اللجوء إليه.

ويمكن فهم قرار ترامب فى سياق مواقفه. فهو أعلن باكرا أنه لا يريد حربا مع طهران، وبعث لها برسائل من هذا النوع. أبلغها أيضا أن أمريكا لا تضع إسقاط النظام الإيرانى هدفا لضغوطاتها، وأن الأمر يتعلق بتعديل السلوك الإيرانى فى الملفات النووية والباليستية والإقليمية. ثم إن ترامب اعتبر لجوء إيران إلى ممارسات حافة الحرب يشكل دليلا قاطعا على أن العقوبات النفطية عليها موجعة فعلا. فى المقابل، بعثت إيران عبر ممارساتها وممارسات وكلائها برسالة مفادها أن الحرب عليها ستشعل جبهات عدة ضد مصالح أميركا ومصالح حلفائها، وأن حرمانها من تصدير نفطها سيحرم دولا أخرى فى أوروبا وآسيا من الحصول على النفط عبر مضيق هرمز. كما بعثت إيران برسالة مفادها أنها ستتحلل من التزاماتها بموجب الاتفاق النووى، ما يعنى العودة إلى التخصيب بنسبة مقلقة.

وفى خطوة يمكن أن تؤدى إلى حرب، كان على ترامب أن يلتفت إلى حال العلاقات بين بلاده وكل من روسيا والصين، وأن يلتفت أيضا إلى الموقف الأوروبى الراغب فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاتفاق النووى، وتفادى العودة إلى المربع الأول، والذهاب إلى حرب تترك آثارها على الاقتصاد العالمى. لقد ترك للأوروبيين فرصة البحث عن إمكان خفض التصعيد، واستكشاف إمكان العودة إلى طاولة المفاوضات، خصوصا أن إيران أغرقت زيارة رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى إلى طهران بممارسات تصعيدية. ولعل ترامب أراد امتحان قدرة الأوروبيين على إقناع إيران بأن الخروج من العقوبات المؤلمة يستلزم مرونة من جانبها فى ملفاتها التى باتت مفتوحة على مصراعيها، وهى تتخطى الموضوع النووى إلى البرنامج الباليستى وسياسات زعزعة الاستقرار عبر ممارسات الوكلاء. ولهذا نقل النزاع مع إيران إلى مجلس الأمن، وأرفق ذلك بالإعلان عن عقوبات جديدة فى الوقت نفسه.

كُتب الكثير فى الأعوام الماضية عن تراجع أهمية الشرق الأوسط فى حسابات الكبار. وأكد مسئولون ومحللون أن هذه المنطقة الغنية بالثروات والنزاعات لم تعد تحتل موقع الصدارة فى استراتيجيات الدول الكبرى. وقيل إن أمريكا التى تستشعر قوة الهدير الآسيوى المتصاعد ستركز قواها فى محيط العملاق الصينى لاحتواء صعوده المتسارع. وذهب بعضهم إلى التحدث عن استقالة أمريكا من دور الشرطى فى الشرق الأوسط لأن تدفق النفط ليس مهددا، ولأن تفوق إسرائيل العسكرى مضمون. وأظهرت سياسة باراك أوباما رغبة واضحة فى إبعاد الأيدى الأميركية عن جمر الشرق الأوسط. وبهذه الروحية جاء انسحاب القوات الأميركية من العراق، والمشاركة فى الاتفاق النووى مع إيران. وثمة من استنتج أن عهد إرسال الأساطيل إلى المنطقة قد انتهى، بعدما بات عليها أن تنشغل بالتحركات الروسية فى بحار أخرى، وبعروض القوة الصينية فى محيط بلاد ماو.

فجأة، تبين أن جاذبية الشرق الأوسط عالية جدا، وأنه يمتلك من التصدعات والأخطار ما يكفى لاستدراج القوى الكبرى مجددا إلى مياهه وأرضه. بدأت القصة مع إطلالة «داعش» المدوية، ثم استكملت مع عودة النشاط إلى مفاعل التوتر الإيرانى فى الإقليم. وها نحن نرى الانتشار الأمريكى فى أرض الخليج ومياهه، ونرى الجيش الروسى يرابط فى سوريا، بموجب اتفاقات تتيح له إقامة مديدة.

وعلى الرغم من كل ما كُتب، ها هى إدارة ترامب تجد نفسها غارقة فى امتحان كبير فى الشرق الأوسط الرهيب. تراهن إيران على تهديد الاقتصاد العالمى، وضرب حظوظ ترامب فى ولاية ثانية، عبر رفع أسعار النفط. ويراهن ترامب على مفاعيل العقوبات الاقتصادية لإرغام إيران على إعطائه ما رفضت إعطاءه لباراك أوباما. المحادثات التى ستدور على هامش قمة العشرين فى أوساكا هذا الأسبوع حول إيران بالغة الأهمية. إننا فى خضم الأزمة، والتكهن صعب. لكن قد يستنتج جنرالات «الحرس الثورى» صعوبة الاستمرار فى التصعيد ضد دونالد ترامب، جنرال العقوبات الاقتصادية هنا وهناك. فهز ركائز الاقتصاد الإيرانى أخطر على بلاد المرشد من قصف المنصات الصاروخية والرادارات وتدمير الجسور. كان الاتحاد السوفيتى مسلحا حتى الأسنان، وتوارى من دون إطلاق رصاصة فى اتجاهه.

التعليقات