حتى الآن اختار الأصدقاء فى إثيوبيا النموذج الإيرانى فى التفاوض مع مشكلة سد النهضة، وأظهرت أديس أبابا ميلا واضحا للمماطلة، وإضاعة الوقت لبناء حقائق على الأرض، يمكن استخدامها لاحقا كورقة ضغط تحقق المزيد من المكاسب، فمثلما فعلت طهران فى ملفها النووى مع الغرب، يستخدم الإثيوبيون الطريقة ذاتها كى يضعونا أمام الأمر الواقع وتنفيذ المزيد من الإنشاءات المطلوبة لبناء السد.
ثمانى جولات حتى الآن للجنة الثلاثية الفنية التى تضم مصر والسودان وإثيوبيا، ولم يتم الانتهاء من تقديم المكتبين الاستشاريين لعروضهما الفنية بشأن التأثيرات المتوقعة لسد النهضة، وفى الاجتماع الأخير للجنة الذى عقد فى أديس أبابا يومى 20 و21 أغسطس الحالى، تم الاتفاق ـ وفقا لتصريحات وزير الرى المصرى الدكتور حسام مغازى ـ على منح المكتبين الاستشاريين، أحدهما هولندى والآخر فرنسى، «مهلة حتى 5 سبتمبر لتسليم العرض الفنى المعدل ومراجعته من قِبَل خبراء الدول الثلاث، خلال الاجتماع التاسع للجنة بالقاهرة، فى موعد يتفق عليه بعد الانتهاء من فحص ودراسة العرض الفنى المعدل».
المهلة الجديدة إذن تنتهى بعد أسبوعين، يعقبهما دراسة العرض المعدل، ثم تحديد موعد جولة تاسعة من المفاوضات، أى أننا أمام فسحة من الوقت لابد وأن الجانب الإثيوبى سيستثمرها لصالحه، وهو ما يطرح سؤالا مهما: هل من حقنا كمصريين أن نقلق من المسار التفاوضى الذى وصلنا إليه فى ملف سد النهضة؟.
لا نحتاج إلى التذكير بأن مياه النيل وحصة مصر فيها شأن يتعلق بحياة ملايين المصريين، حاضرا ومستقبلا، كما أننا لابد أن نعترف أننا ندفع اليوم ثمن اهمالنا وهجرنا لسنوات طوال مواقعنا الدبلوماسية ومجالات التعاون مع الأصدقاء فى القارة السمراء، وخصوصا فى دول حوض النيل، وها نحن نجنى الأشواك، التى قد تدمى أيدينا ونحن نحاول منع الأضرار فى واحد من الملفات المهمة، إن لم يكن الأهم، والمتعلق بأمننا المائى.
فى السنوات العجاف التى سبقت ثورة 25 يناير، والفترة القصيرة من حكم الإخوان، شهد ملف نهر النيل مسارين، أحدهما كان أشبه بالنوم فى العسل، رفعنا خلاله على ما بدا، شعار «لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم»، وعندما تكلمنا أيام الرئيس المعزول محمد مرسى، نطقنا «تهديدا صبيانيا» أدخلنا فى وحلة من الشك وعدم الثقة فى علاقتنا مع إثيوبيا التى تأتى منها الحصة الأكبر من مياه النيل.
عقب ثورة 30 يونيو سارعنا، وهو ما كان مطلوبا، لطى صفحة سوداء فى طريقة التعاطى مع ملف سد النهضة، وعملنا عبر لقاءات وزيارات على مستوى القمة، واللجان الوزارية، لتبديد الشكوك لدى الإثيوبيين، والتأكيد على أهمية التعاون والتفاهم فى ملف مياه النيل، وكنا واضحين تماما، وقلنا إننا لسنا ضد ما يخدم أغراض إثيوبيا التنموية، لكننا لن نقبل بما يضر أو يؤثر على حصتنا السنوية من مياه النيل البالغة 55 مليار متر مكعب.
واعتقد أن خبراء وزارة الرى المصرية وباقى الجهات التى تتولى ملف سد النهضة، قدموا من جانبهم جهودا لا يمكن إنكارها للحفاظ على حقوقنا، من دون إغفال المتطلبات الإثيوبية، لكن حتى هذه اللحظة لم نلمس من الجانب الإثيوبى سوى سلاح المراوغة والتسويف، بل واستغلال الظروف الداخلية المصرية أحيانا لتمرير ما يريده، وهو أمر اعتقد أنه لا يمكن قبوله كل الوقت.