الخلافة الراشدة: بين السياسة والدين - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخلافة الراشدة: بين السياسة والدين

نشر فى : السبت 26 يناير 2019 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 26 يناير 2019 - 7:25 م

رغم صعوبة وقع خبر وفاة الرسول على المسلمين، إلا أن الأمر تم التعامل معه بعقلانية تامة، لم يكن الرسول مجرد قائد ولكنه كان رسولا من الله وحاملا لرسالة عظيمة غيرت من حياة شبه الجزيرة العربية وحياة من آمن بها، ليس سهلا أن يموت رسول، لكن ورغم ذلك وفاة الرسول كانت عادية، دفنه كان عاديا ومتواضعا، لا صدمات ولا انهيارات، لم تنسج حول الوفاة أى أساطير كما حدث لبعض الأنبياء من قبله، السبب واضح وبسيط، عاش الرسول بشرا ومات بشرا وإذا كانت حياته بلا أساطير فهكذا كان مماته، ومن هنا كانت قدرة المسلمين الأوائل على تخطى اللحظة رغم صعوبتها.
تعامل المسلمون مع الوفاة ببرجماتية شديدة، اجتماع جرى بين الصحابة وكبار المسلمين من الأنصار والسنة لاختيار «الخليفة»، اجتماع شهد بعض الشد والجذب، ولم يشهد الكثير من الشورى كما يعتقد معظم المسلمين، جدل وخلاف طال، فحسمه عمر بكاريزميته وقوة شخصيته حينما طلب من المجتمعين مبايعة أبوبكر وأمام حسم عمر، استجاب المجتمعون وبايعه العامة لينصب أبوبكر كأول خليفة للمسلمين، الكل كان يعرف أننا لسنا أمام رسول جديد، لأن محمدا ــ صلى الله عليه وسلم ــ هو خاتم الأنبياء بحسب العقيدة الإسلامية، ومن هنا كانت عملية اختيار الخليفة عملية سياسية بحتة حُسمت بالكاريزما ثم بالبيعة، لم يكن هناك أى نصوص دينية تحدد من الخليفة أو كيفية اختياره ومن هنا فلا توجد أى دلائل على أن «الخلافة» كانت أمرا دينيا ولكنها كانت عملية سياسية بحتة خضعت لتقدير المسلمين فى هذا التوقيت الصعب.
***
بدأ الخليفة أبوبكر حكمه بخوض حروب الردة لقمع انتفاضات بعض العرب ضد الدولة الإسلامية آملين أن تترك وفاة الرسول ثغرة معنوية وتكتيكية فى الدولة، أخمد أبوبكر هذه الانتفاضات بنجاح لتكون بمثابة نجاح له فى أول اختبار صعب بعد وفاة الرسول، واصل أبوبكر ما كان قد بدأه الرسول، حيث قام بتوسيع الدولة الإسلامية وقد خاض حربا ضروسا فى العراق وعلى مشارف دولة الفرس كانت أقوى المعارك، ثم الخليفة عمر من بعده نجح فى اجتياح دولة الفرس واستحوذ المسلمون على أجزاء كبيرة مما نعرفه اليوم بالدولة الإيرانية، وهكذا استمرت التوسعات لتشمل القدس وسورية ومصر وشمال إفريقيا، ليحقق المسلمون نجاحات ساحقة على أكبر إمبراطوريات العالم القديم (الفرس والبيزنطيين).
فى الفصل الثالث من الجزء الأول من موسوعة كامبريدج للتاريخ الإسلامى، حاولت لاورا فاجليرى ــ أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة نابلس بإيطاليا ــ تفسير هذه النجاحات المتواصلة للدولة الإسلامية فى هزيمة الإمبراطوريات الكبرى، وقد رأت لذلك سببين وجيهين، الأول هو استعانة المسلمين بقادة حربيين على مستوى عال من الكفاءة مثل خالد بن الوليد الذى فرق كثيرا فى حروب المسلمين فى تلك الحقبة، بالإضافة إلى مساعدة المستعربة والبدو وحماسهم للانقضاض على بيوت السكان من غير المترحلين وهى عادة ــ بحسب فاجليرى ــ متأصلة لدى البدو، لكن رأت فاجليرى سببا ثالثا مهما فى هذه النجاحات ألا وهو «الإسلام»، حيث ترى أن الإسلام أسس عقيدة ووحدة بين المسلمين رفعت كثيرا من روحهم المعنوية وانعكست على أدائهم القتالى لأنهم اقتنعوا أنهم يخوضون حربا مقدسة وهو ما سهل تحقيق هذه النجاحات ضد إمبراطوريات كبرى لم يكن يعتقد الكثيرون بسهولة هزيمتها من أبناء دين مازال فى مرحلة النشأة والتطور وقتها.
***
كانت خلافة عمر بن الخطاب لأبوبكر بتوصية من الأخير قبلها الصحابة وبايعها عامة المسلمين، كان التطور الأهم فى شكل الدولة الإسلامية هو فى عهد الخليفة عمر الذى أخذ فى تنظيم الدولة المترامية بشكل إدارى وسياسى ناجح. كان أول قرارات عمر هو الكيفية التى سيتعامل بها مع الدول الجديدة التى سيطر عليها المسلمون وكذلك مع سكانها، وقد اتبع عمر خمس سياسات واضحة فى هذا السياق:
السياسة الأولى هى إتاحة الفرصة لما يمكن مقاربته فى العصر الحديث بما يعرف بالحكم المحلى حيث تم تفويض السلطات لحكام الولايات المسيطر عليها وقد قام الأخيرون بدورهم بتفويض بعض الصلاحيات لبعض القادة المحليين إدراكا لأن الدولة الإسلامية الآن أصبحت متعددة الأعراق والأجناس والأديان مع اختلاف درجات تحضر السكان الجدد المنضمين حديثا للدولة الإسلامية مما يتطلب تفهما لظروف كل مجتمع.
أما السياسة الثانية فهى وضع نظام للتعامل مع أهل الكتاب فى المدن والدول المسيطر عليها، بحيث يوفر المسلمون لهم الأمن الداخلى والخارجى ويكفلون لهم حرية ممارسة شعائرهم فى مقابل ضريبة إضافية يدفعونها طالما أنهم لا يشاركون فى المهام الأمنية، وقد كانت هذه الضريبة المفروضة أقل بكثير من الضريبة المفروضة عليهم بواسطة الدولة البيزنطية. وعلى القارئ ملاحظة اختلاف هذا العصر كلية عن العصر الحالى حيث يوجد مواطنون متساوون فى الحقوق والواجبات وهو منطق يختلف عن منطق الإمبراطوريات القديمة حيث لم يكن هناك معنى للمواطنة ورغم أن تطبيق عمر لهذا النظام كان تماشيا مع منطق الإمبراطوريات فى هذا العصر إلا أنه تمتع بالذكاء والحنكة ليخفف من هذه الضريبة مقارنة بالعصر البيزنطى ويتيح المزيد من الحريات الدينية والعبرة فقط لمن يعتبر فى هذا العصر.
ثم كانت السياسة الثالثة هو وضع نظام خاص للتعامل مع الأراضى المسيطر عليها من الولايات المنضمة للإمبراطورية الإسلامية، وفى ذلك اتبع عمر ثلاث قواعد، الأولى لو أن أهل هذه الأراضى استسلموا للدولة الإسلامية دون مقاومة (أو ببعض المقاومة ولكن تم الاستسلام قبل الهزيمة)، فكان يتم ترك الملكية والإدارة لهم دون أى انتقاص من حقوقهم، أما لو كانوا قد قاوموا حتى تم هزيمتهم، فكانت القاعدة المعمول بها هى أن يعامل المنتصر المهزوم وفقا لما يريد ويرضى الأول، وهو ما كان يعنى فى معظم الأحوال مصادرة الأراضى من ملاكها الأصليين لكن لأن الخليفة عمر رجل سياسى لديه دهاء وليس مجرد رجل دين تقليدى مقلد، فقد أدرك سريعا أن المسلمين (ومعظمهم من البدو) ليسوا على دراية بطريقة الزراعة والرى، ومن هنا فقد أمر أيضا بترك الملكية والإدارة للملاك الأصليين، أما فى حالة هروب ملاك الأراضى وقت الحرب ونزوحهم إلى أماكن أخرى، فقد رفض عمر تمليك الأراضى للمسلمين المنتصرين وأصر على جعلها ملكية عامة للدولة لتنتفع الأخيرة بها ومن هنا فقد غير نظام الغنائم الذى كان متبعا وقت الرسول، بلا خوف أو تردد، لأنه كان سياسيا فى المقام الأول يعمل لصالح الدولة غير عابئ بالتقليد.
أما السياسة الرابعة فقد كانت تطوير النظام المالى للإمبراطورية الإسلامية بتوحيد نظام الضرائب على الملكيات الخاصة ولا سيما الأراضى، بين المسلمين وغير المسلمين مع الإبقاء على الضريبة الإضافية على غير المسلمين بالشكل المشار إليه أعلاه، مع وضع ميزانية لتحديد احتياجات العام الحالى وكذلك العام المقبل، مع وضع نظام معاشات خاص للدعاة وكذلك للعسكريين.
وأخيرا جاءت السياسة الخامسة لتطوير الجيش وقدراته القتالية مع عمل تغييرات مستمرة فى هيكل القيادة لضمان الولاء والكفاءة مع الحرص على هيكلة مؤسسة الجيش ماليا وإداريا بشكل مستمر.
وهكذا وبعد سنوات قليلة من وفاة الرسول، كان كل شىء فى الدولة الإسلامية يتغير بالتوفيق بين متطلبات الدين ومتطلبات العصر وهكذا كانت الخلافة والخلفاء بشرا يصنعون نظما سياسية وإدارية واقتصادية لمجاراة ظروف العصر والحفاظ على أسباب التفوق بعيدا عن التقليد والتزمت، قبل أن تقع أول حرب أهلية فى تاريخ المسلمين، لينقطع كل شىء عرفناه عن السياسة والدين فى عهد الرسول والخلفاء الراشدين وهو ما أتناوله فى المقالات القادمة.

أستاذ مساعد العلاقات الدولية الزائر، جامعة دنفر.
الاقتباس

بعد سنوات قليلة من وفاة الرسول، كان كل شىء فى الدولة الإسلامية يتغير بالتوفيق بين متطلبات الدين ومتطلبات العصر وهكذا كانت الخلافة والخلفاء بشرا يصنعون نظما سياسية وإدارية واقتصادية لمجاراة ظروف العصر والحفاظ على أسباب التفوق بعيدا عن التقليد والتزمت.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر