كنت قد توقفت فى آخر مقال لهذه السلسلة عند وعد بلفور البريطانى لإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين عام ١٩١٧، وتوقف المؤتمرات الصهيونية خلال فترة الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨)، وقبل أن أقوم باستئناف الحديث عن المؤتمرات الصهيونية بعد انتهاء الحرب، أرى أنه من المناسب أن نعرج قليلا على الهجرات اليهودية إلى فلسطين منذ العقدين الأخيرين للقرن التاسع عشر وحتى اندلاع الحرب، ذلك كون أن هذه الهجرات كانت تمضى قدما مع استمرار عقد المؤتمرات الصهيونية كتكتيك واضح لفرض الحقائق لقيام دولة عبرية على الأرض!
لابد أولا أن نفرق بين الهجرة اليهودية إلى فلسطين قبل ثمانينيات القرن التاسع عشر، والهجرة بعد هذا التاريخ، ذلك أن الهجرات اليهودية إلى فلسطين التاريخية لم تكن تتم بكثافة ولا بتنظيم أو دعم مالى فى معظم الأحوال من ناحية قبل هذا التاريخ، ومن ناحية أخرى فقد كانت هجرة دينية، أى إنها تتم لغرض دينى بحت، وهو العيش بجانب المقدسات اليهودية فى المدينة المقدسة! أما الهجرات التى تمت بعد هذا التاريخ، فمن ناحية كانت تتم بأعداد أكبر، وبتنظيم ودعم مالى مستمر من عدة جهات، والأهم من كل ذلك أن معظمها كان يتم بغرض سياسى واضح، ألا وهو إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين.
• • •
كانت من أبرز ملامح الهجرة اليهودية الدينية إلى فلسطين تلك التى تمت مع نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر بعد إقرار قانون التنظيمات العثمانية الذى حاول إدخال العديد من التشريعات والإصلاحات السياسية والمؤسسية الحديثة على الدولة العثمانية والمناطق التابعة لها، ومن ضمن هذه الإصلاحات تم السماح لبعض اليهود وغير المسلمين عموما بالانتقال الحر فى أراضى الإمبراطورية ومنها بالقطع فلسطين وأجزاء من سوريا. لكن ومع بداية الاضطهاد الروسى لليهود الذى أشرت إليه فى مقالات سابقة، مع عام ١٨٨٢ بدأت منظمتان يهوديتان مدعومتان من بعض يهود أوروبا والولايات المتحدة بتنظيم أول مراحل الهجرة المنظمة إلى فلسطين. كانت هاتان المنظمتان هما منظمة «أحباء صهيون»، ومنظمة «Bilu» وهو اختصار لآية وردت فى سفر أشعياء تقول «بيت يعقوب، دعنا نذهب إليه». تم تسمية هذه الهجرات بالمصطلح العبرى «عليا» والذى يعنى الصعود إلى المدينة المقدسة، كون أن القدس مرتفعة عن مستوى سطح البحر! تمكنت المنظمتان حتى من قبل إنشاء الحركة الصهيونية من تنظيم الهجرة اليهودية من شرق أوروبا إلى فلسطين وبعض مناطق سوريا منذ ذلك التاريخ، وهى عملية الهجرة التى مازالت مستمرة حتى الآن إلى الدولة العبرية، وإن كانت تتم منذ عام ١٩٥٠ وفقا للقواعد التى أقرها «قانون العودة» الذى مرره الكنيست الإسرائيلى فى ذلك العام ويعطى الحق ليهود العالم أو أى من كان أبواه أو جدوده يهودا، الحق فى الهجرة إلى إسرائيل والحصول على الجنسية هم وأولادهم، أولادهن وأزواجهم، أزواجهن!
كانت المرحلة الأولى من الهجرة اليهودية إلى فلسطين هى تلك التى جرت بين عامى ١٨٨٢ و١٩٠٣ والتى أتت على مدار هذه السنوات بنحو خمسة وثلاثين ألف مهاجر ومهاجرة معظمهم من روسيا ورومانيا مع بعض اليهود الذين هاجروا من اليمن. وقت سنوات هذه المرحلة الأولى، كان عدد اليهود فى فلسطين يقل عن ٥٪ من إجمالى السكان، لكن مع هذه الهجرة بدأت التركيبة السكانية فى فلسطين تتغير بشكل تدريجى لصالح اليهود.
كانت اللغة العبرية مازالت غير مستخدمة بين اليهود اللهم إلا بين قلة من المثقفين فى أوروبا، ولما كان معظم هؤلاء المهاجرين من المزارعين أو الحرفيين البسطاء، فلم يتحدثوا سوى لغتهم الأم، ومن ثم لم يكن من الممكن التعامل والتفاهم بسهولة بين يهود روسيا ويهود رومانيا مثلا من ناحية، ويهود اليمن أو إيران من ناحية أخرى، فسكنت كل مجموعة متجانسة لغويا فى مستوطنات منفصلة بينما سكن يهود اليمن مثلا فى مدن عربية، وهكذا كان إجمالى عدد المستوطنات التى تم إنشاؤها بواسطة هؤلاء المهاجرين ثمانى وعشرين مستوطنة، ومعظم هذه المستوطنات كان قريبا من ساحل البحر المتوسط والبعض الآخر كان قريبا من القدس.
كان بعض هؤلاء المهاجرين الجدد يفتقد بعض مهارات الزراعة، أو القدرة على التعايش فى المجتمع الجديد، وهنا جاء دور «لجنة الأوديسا» والتى عرفت أيضا باسم «رابطة دعم المزارعين وأصحاب الحرف اليهود فى فلسطين وسوريا»، والتى وافقت عليها الحكومة الروسية لتسهيل هجرة اليهود من أراضيها، كان مقر هذه الرابطة مدينة أوديسا (فى أوكرانيا حاليا) وهكذا حصلت على الاسم المختصر نسبة إلى المدينة. قدمت الرابطة العديد من البرامج التدريبية والتأهيلية لهؤلاء المهاجرين، للتأقلم مع الحياة الجديدة، وعندما بدأت الحركة الصهيونية فى العمل فإن لجنة الأوديسا تلقت العديد من المساعدات من الحركة، كون أن العوائق التى واجهت المهاجرين الجدد كانت كبيرة وهددت نجاح الهجرة لولا تدخل هذه اللجنة! قامت اللجنة أيضا بدور الوسيط بين المهاجرين اليهود وأصحاب الأراضى من العرب فى شراء العديد من الأراضى فى فسطين بأثمان مغرية عبر وسطاء أو سماسرة عرب أثرياء، وقت لم يكن ملاك الأراضى هؤلاء على دراية كاملة بالهدف الحقيقى لعمليات الشراء أو هكذا نعتقد!
* • •
بدأت المرحلة الثانية للهجرة اليهودية أو الـ«عليا» عام ١٩٠٤ وذلك بعد مذابح جديدة فى حق اليهود فى الإمبراطورية الروسية، واستمرت هذه المرحلة حتى عام ١٩١٤ واعتمدت أيضا على يهود روسيا وبعض يهود بلغاريا ورومانيا واليمن وإيران وبلغ إجمالى تعداد هذه الهجرة نحو أربعين ألفا معظمهم أيضا كانوا من المزارعين! لكن كان هناك ثلاث سمات جديدة لهذه المرحلة:
السمة الأولى تمثلت فى حصول هذه المجموعة الجديدة على المزيد من الدعم المالى وخصوصا بعد أن تمكنت الحركة الصهيونية من زيادة التدفقات المالية والتبرعات إلى المهاجرين اليهود فى فلسطين.
أما السمة الثانية، فتمثلت فى بداية اعتماد اللغة العبرية فى التعاملات اليومية سواء داخل المستوطنات أو حتى داخل البيوت، بعد أن كانت العبرية بالأساس لغة الصلوات فقط، وقد ارتبط بذلك أيضا حركة ثقافية قادها «آحاد هعام» طورت من الفنون اليهودية اعتمادا على اللغة العبرية وهو ما ساهم فى تقوية روابط الانتماء والشعور بالهوية اليهودية/العبرية بين أبناء المهاجرين الجدد.
فيما كانت السمة الثالثة والأخيرة متمثلة فى اعتماد نظام جديد للمستوطنات عرف باسم «الكيبوتس» أو المجتمعات الزراعية التعاونية التى تقوم على العمل والإنتاج ومشاركة الموارد بشكل شبة متساو بين أفراد هذه التعاونيات، وخصوصا فى ظل معاناة المهاجرين الأوائل من عدم القدرة على الاكتفاء الذاتى من المحاصيل التى كانوا يزرعونها، وقد لاقى هذا الشكل الجديد الكثير من النجاح وأصبح هذا الشكل من المجتمعات هو الأساس الذى قامت عليه لاحقا الدولة العبرية، قبل التوسع لاحقا فى إنشاء المدن الكبرى!
استمرت لجنة الأوديسا فى تقديم الدعم الفنى اللازم، بينما تكفلت الحركة الصهيونية بتقديم الدعم المالى، فضلا عن الدعم اللوجستى لتيسير الهجرات اليهودية اللاحقة، حتى قامت الحرب العالمية الأولى فتوقفت هذه الهجرات مؤقتا وانتهى معها عمليا دور لجنة الأوديسا، وإن كان العمل الصهيونى لم ينتهِ قطعا!
ملحوظة (١): اعتمدت هذه المقالة على البيانات التى توفرها مؤسسة «المشروع الإسرائيلى - الأمريكى التعاونى» المعروف باسم AICE من خلال الموقع الإلكترونى للمكتبة الافتراضية اليهودية، وكذلك على مطبوعة إنجليزية حررها كل من جارى نيلسون وجابريل نوح ونشرتها جامعة ييل عام ٢٠١٥ بعنوان «القضية ضد المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل» والمنشورة على موقع الجامعة.
ملحوظة (٢): اعتماد بعض مقالات هذه السلسلة على وثائق أو كتابات أكاديمية إسرائيلية أو أمريكية منحازة لإسرائيل لا يتعارض مع تحرى الكاتب لهذه البيانات عبر وثائق أو كتابات أخرى، أو اللجوء لبعض المتخصصين المحايدين أكاديميا لمزيد من التدقيق، وعند نشر هذه السلسلة فى شكل كتاب سيتم نشر منهاجية التقصى والمقارنة والمقاربة، مع المقابلات الأكاديمية التى تمت لهذا الغرض.
مدير برنامج التعاون الدبلوماسى الأمريكى اليابانى، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر