اتخذت الجزائر قرارا حاسما بقطع العلاقات مع دولة المغرب على إثر خلافات مزمنة بين الجانبين منذ العام 1963، زاد عليها اتهامات خطيرة فى الأسابيع القليلة الماضية. فالجزائر تتهم المغرب بالقيام بأفعال عدائية، ومنها التجسس على مسئولين جزائريين، حيث اتهم وزير الخارجية الجزائرى المغرب باستخدام برنامج بيجاسوس الإسرائيلى، التى نفى المغرب صلته بها. ومنها اتهام المغرب بدعم جماعات انفصالية فى منطقة القبائل بالجزائر، وعلى رأسهم منظمتان «الماك ورشاد»، التى تعتبرهما الجزائر جماعات إرهابية، وتتهمهم بالضلوع فى إشعال موجة الحرائق الأخيرة التى أضرت بالجزائر أشد الضرر. ومنها ما جاء فى المؤتمر الصحفى الأخير بين وزير الخارجية الإسرائيلى، يائير لابيد، أثناء زيارته للمغرب فى منتصف شهر أغسطس بحضور وزير الخارجية المغربى، والذى أعرب فيه «عن قلق بلاده من التقارب بين إيران والجزائر، ورفضها ــ الجزائر ــ قبول إسرائيل فى الاتحاد الإفريقى بصفة مراقب». وهو ما كان يستوجب ردا مغربيا أثناء المؤتمر، ولكنه لم يحدث. ولهذه الأسباب وغيرها من القضايا القديمة العالقة، قررت الجزائر قطع العلاقات بعد 33 سنة من عودتها بوساطة سعودية، ولم يشفع خطاب الملك المغربى للحد من انهيار العلاقات وعودتها لما كانت عليه عام 1976 من قطيعة. ولكن من المستبعد أن تصل الأمور لما كانت عليه فى حرب الرمال بين البلدين.
تدهور العلاقات على هذا النحو استدعى تصريحات لأمين عام جامعة الدول العربية، ناشد فيها الجانبين ضبط النفس وعدم التصعيد. لكن يبدو أن الجزائر على وشك اتخاذ قرار يزيد من تعقيد الموقف، يخص خط أنابيب نقل الغاز الطبيعى عبر المغرب إلى أوروبا ــ إسبانيا والبرتغال. وهو الخط المعروف باسم «خط أنابيب المغرب ــ أوروبا». ينبع هذا الخط من حقل حاسى الرمل فى الجزائر ويسير لمسافة 515 كم فى الأراضى الجزائرية، ثم لمسافة 525 كم فى الأراضى المغربية، ثم 45 كم عبر مضيق جبل طارق فى قاع البحر المتوسط، ثم يصل مسافة 269 كم فى القسم الأندلسى بإسبانيا، ويقطع فى البرتغال مسافة 269 كم، ليصل لمحطته النهائية. وأعربت المغرب مرارا خلال السنوات الثلاث الماضية عن رغبتها فى تجديد العقد مع الجزائر، ليستمر تشغيل خط الأنابيب الذى يمر عبر أراضيها وتستفاد منه. فلقد بلغت استفادة المغرب حوالى 170 مليون دولار عام 2018، و113 مليون دولار عام 2019، و56 مليون دولار عام 2020. وهى رسوم مرور الخط الناقل للغاز الطبيعى عبر الأراضى المغربية. والمغرب تحصل على هذه الأموال فى صورة غاز طبيعى بحجم يصل إلى 600 مليون متر مكعب سنويا، يوفر للمغرب الطاقة اللازمة لتشغيل 90% من محطات الكهرباء. وإذا اتخذت الجزائر عبر شركة سونطراك المشغلة للخط فى الجانب الجزائرى، قرارا بعدم تجديد العقد الذى ينتهى فى 31 أكتوبر من العام الجارى، فإن هذا سيدفع المغرب للتحول لمستورد للغاز المسال من أقرب المصادر، مثل نيجيريا، أو مصر أو قطر أو إسرائيل، والذى تبلغ قيمته ثلاثة أمثال الغاز فى حالته الطبيعية.
•••
قطع الغاز الطبيعى سيزيد من أعباء المغرب المالية، ويحول أزمتها الاقتصادية الحالية إلى أزمة طاحنة تضغط بعنف على المواطن المغربى. وقد يستدعى هذا حراكا شعبيا يؤثر على استقرار المملكة المغربية. وفى السياق ذاته، لن تتأثر كل من إسبانيا والبرتغال من هذا القرار، لوجود خط ناقل بديل يصل الجزائر مباشرة بإسبانيا فالبرتغال، وهو خط أنابيب «ميد ــ غاز»، وسعته تستطيع استيعاب ما ينقله خط المغرب. وهو درس مهم للدول التى تدخل فى تعاقدات طويلة الأجل وباستثمارات بالغة الضخامة مثل التى يحتاجها خط أنابيب الغاز الطبيعى. فخط المغرب ــ أوروبا تم تدشينه عام 1992، واستغرق أربع سنوات من أجل بناء الخط، بطول 1620 كم، وأصبح جاهزا للعمل عام 1996، وتكلف 2,3 مليار دولار وقتها! والآن أصبح رهينة العلاقات الدبلوماسية الجزائرية المغربية. ولم نسمع بعد عن ردة فعل الشركات الأجنبية المشغلين للخط على الجانب المغربى، والأوروبى. فمن الأكيد أن هذه الشركات ستحاول الضغط على الجانب الجزائرى لعدم الإضرار بها. لكن لا يوجد خطأ قانونى على جانب الجزائر، فكل ما ستفعله هو مشابه لما قامت به روسيا من قبل، التى لا تريد تجديد التعاقد مع الجانب الأوكرانى لنقل الغاز عبر الأنابيب المارة فى أراضيه. تسييس خطوط الأنابيب على هذا النحو، وفشل دبلوماسية الأنابيب التى تبنى علاقات تعاون بين البلدان المشاركة فى المشاريع، هو ملف بحاجة للمتابعة الدقيقة، لنرى كيف ستمضى الأمور بين مختلف الأطراف، وإلى أين ستصل أضراره فى النهاية. هل تتأكد المخاوف وتتلقى المغرب ضربة اقتصادية مؤلمة، أم ينجح وسطاء المنافع المتبادلة فى تغليب المصالح المشتركة وعدم تحويل علاقة المنفعة إلى معادلة صفرية. علما بأن خط أنابيب المغرب ــ أوروبا كان يضرب به المثال فى خلق بيئة تعاون بين دولتين ليستا على وفاق تام، وبينهما اختلاف بيّن فى قضايا محورية مثل قضية البوليساريو ــ الصحراء المغربية.
•••
ولا جديد فى العمل العربى المشترك، فمنذ سنوات قليلة قطعت أربع دول علاقتها بقطر، ثم عاد ثلاث منها إلى التوافق مرة أخرى. والآن أزمة فى المغرب العربى شغلت الجزائر عن الوساطة التى كان يقودها فى ملف سد النهضة بين إثيوبيا، والسودان، ومصر. ولا توجد مبادرات عربية جامعة أو مشروع جديد نابع من قلب المنطقة يحفز العمل المشترك. بل غلبت على دول المنطقة مبدأ الرئيس السابق ترامب «بلدى أولا»، والذى تحول لشبه عقيدة تنتهجها البلدان. وإذا واصلت الجزائر والمغرب التصعيد الاقتصادى المضر فيما بينهما، فإن مثل هذه السوابق تتحول لتيار تاريخى يرسخ الانقسام، وإن ما يفرقنا أكثر مما يجمعنا، وإن الحلول دائما من الخارج. راجع كيف تنقذ الآن إيران لبنان بالنفط! وأكثر ما يلفت الانتباه فى هذا الملف، أن أى مصالحة لا تتم داخليا بين البلدان التى تدهورت علاقتها ببعض، ولكن يتم هذا عبر وسيط خارجى، وأحيانا عبر إملاء خارجى. وفى كلتا الحالتين يصبح القرار غير عربى، أو حتى غير محلى (وطني)، وتصبح تطور العلاقات بين الدول العربية تدخل فى معادلة تشمل طرفا غير عربى. فمنصة فى برلين للشأن الليبى، وأخرى فى جنيف للسورى، ومثلها فى سوتشى، ثم مؤتمر للمانحين لإعادة إعمار غزة، ومؤتمر لليمن، وهلم جرة. المشكلة فى كل هذا ليس وجود طرف خارجى يساعد. بل المشكلة أنه لا يوجد طرف عربى قادر أو حتى يريد.