تحولت قضية تحرير المرأة فى مصر إلى موضوع للحوار العام خلال شهر مارس، وكما هو الحال فى أمور كثيرة، فالاهتمام بأوضاع المرأة هو اهتمام موسمى، هو مناسب فقط عندما تكون هناك مناسبة عامة تستدعيه، ثم يتوارى الاهتمام به، ويسقط من النقاش العام عندما تنقضى هذه المناسبة.
تعددت مناسبات الحديث عن أوضاع المرأة فى مصر خلال الأسابيع الأخيرة، كان منها الاحتفال باليوم العالمى للمرأة فى ٨ مارس، وعيد تحرير المرأة المصرية فى ١٥ مارس، ثم رحيل دكتورة نوال السعداوى، أشجع من تولى تشريح الجوانب المسكوت عنها فى هذه الأوضاع، ومشاركة السيد الرئيس فى احتفال رسمى جرى فيه تكريم من اخترن كأمهات مثاليات فى محافظات مصر واقتصر الحديث فى كل المحافل التى تناولت هذا الموضوع على تعداد الإنجازات التى حققتها المصريات على مدى العقود الماضية.
لاشك فى قيمة هذا الاهتمام بأوضاع المرأة فى مصر، فهو يمثل فى بعض جوانبه استنكارا لثقافة ذكورية غالبة تحط من مكانة المرأة، وتعاملها باعتبارها ناقصة عقلا ودينا، ومن ثم غير جديرة بأن تكون لها نفس الحقوق مع الذكور، حتى ولو كانت تتحمل من الواجبات أكثر مما يتحمل الآخرون. ولكن ربما يكون من المناسب أيضا أن يكون هناك قدر من التوازن فى هذا الخطاب العام، بالتذكير بما لم تحققه المرأة فى مصر، وبتلك الأبعاد الأخرى المسكوت عنها، حتى تتلمس الحركة النسوية فى مصر الطريق الصحيح وكذلك الأسلوب المناسب فى النهوض بأوضاع النوع على نحو يحقق قدرا أكبر من المساواة بين الجنسين.
مجالات عدم المساواة بين الجنسين
لم تتجاوز مطالب الحركة النسوية فى مصر، رغم أن عمرها قد اقترب من قرن من الزمان، ما كان يرفعه الجيل الأول من الحركة النسوية فى الغرب، وهو الدعوة للمساواة أمام القانون، وفى التعليم، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية عموما، ومع أن الدكتورة الراحلة نوال السعداوى كانت ممن ساهمن فى نقل الحركة النسوية العالمية إلى جيل ثان، لم تجرؤ النسويات المصريات على جعل ما كانت تنادى به ضمن جدول أعمالهن، بل ولم تتجاوب الحركة النسوية المصرية مع النظرة الانتقادية للجيل الثالث للحركة النسوية العالمية، والتى توقفت عن النظر للنساء ومطالبهن كما لو أنها مطالب لكل النساء، غافلة عن أن هناك فوارق فى الأوضاع والمطالب بين فتيات ونساء الطبقة الوسطى المتعلمات فى المدن، ونظيراتهن اللاتى يقللن عنهن تعليما ودخلا وحرية فى الريف. ونظرا للاقتصار على الجوانب القانونية والاقتصادية فى الفوارق بين الجنسين، لا تحظى الجوانب الثقافية والسياسية بالاهتمام الكافى كما يغيب سلم الأولويات، فليس من الواضح فى أدبيات تلك الحركة ما هو المجال الذى يجب أن يتركز فيه جهدها بحيث أن النجاح فيه قد يؤدى إلى نقلة نوعية فى أوضاع النوع فى مصر، أى تقليلا من عدم المساواة للذى يسود بين النساء والرجال فى الوقت الحاضر، وذلك على الرغم من التقدم فى مجالات مثل التعليم وتولى مناصب قيادية فى المؤسسات الحكومية.
النظرة الشاملة لأوضاع عدم المساواة بين الجنسين تقتضى الاهتمام بأبعاد سبع هى الاستقلال الذاتى، والعلاقات الأسرية، وإطار القيم السائد فى المجتمع، والمكانة القانونية، والنشاط الاقتصادى، وممارسات العنف، والمشاركة السياسية، فأين هى علاقات النوع فى مصر داخل هذه الأبعاد؟ وأيها له القيمة الاستراتيجية بحيث أن التغير فيه يحدث نقلة نوعية فى الأبعاد الأخرى.
العلاقات النوعية والحق فى المواطنة فى مصر
مجرد الحديث عن العلاقات النوعية فى مصر يثير حساسية لدى كثيرين الذين ينسبون إلى هذا الاقتراب فى تناول علاقات الذكور والإناث مرجعيات تتناقض فى رأيهم مع الثقافة العربية ــ الإسلامية، وهذا فى الحقيقة خطأ كبير، فالمقصود بالعلاقات النوعية فقط هو علاقات الذكور والإناث باعتبارها انعكاسا للثقافة السائدة فى المجتمع، وذلك دون إصدار أحكام قيمية على هذه العلاقات. ومن الواضح أن هذه العلاقات تختلف على أرض الواقع بين مجتمع وآخر. بل وتختلف داخل نفس المجتمع ربما بين طبقة وأخرى أو بين إقليم وآخر.
خذ مثلا البعد الأول فى هذه العلاقات، وهو الاستقلال الذاتى وأتناول أبسط صور هذا الاستقلال، وهو ملكية الإنسان لجسده الذى تعتبره بعض المدارس الفلسفية أساس الحرية. المرأة فى مصر تفقد السيطرة على جسدها منذ الطفولة. راجع الأرقام المتداولة عن نسبة الصغيرات اللاتى يتعرضن لمحنة الختان، والتى تراجعت فى السنوات الأخيرة، ولكنها لا تزال تقع على أكثر من تسعين فى المائة من الصغيرات فى الريف والأحياء الفقيرة فى المدن. أوليس تحديد مرات الحمل صورة أخرى من سيطرة المرأة على جسدها؟ هل يتوقف عدد الأطفال الذين تنجبهن المرأة على قرارها أم أنه محصلة لمجموعة من الضغوط والأعراف الاجتماعية التى تجعل قرار المرأة فى هذا الخصوص هو آخر الاعتبارات التى تأخذها الأسرة الصغيرة والعائلة الممتدة فى الحسبان. أوليس رداء المرأة مظهرا ثالثا لسيطرتها على جسدها. هنا يتدخل المجتمع فى مصر أو قطاعات واسعة منه ليرشد المرأة المسلمة على الأقل لما ينبغى أن تكشفه من جسمها وما يجب حجبه، ويصل الأمر إلى دعوتها ألا تترك من جسدها سوى عينيها، ويستحسن كذلك أن تغطيهما وراء نظارة سوداء، لأنهما عورة وفتنة نائمة لا يجب إيقاظها، ويظهر آخرون بعضا من الأريحية مع جسد المرأة فيسمحون لها بأن تكشف وجهها، طالما أنها تغطى كل جسدها بما فى ذلك شعرها. طبعا هناك جوانب أخرى لقضية السيطرة على الجسد منها مثلا قضية التنقل. المجتمع يحدد ساعات خروج المرأة وحدها، وويل لمن تشاهد وحدها فى عرض الطريق فى الساعات المتأخرة من الليل أيا كانت الأسباب، سوف تلاحقها المطاردات، وتعلق باسمها الشائعات. القضية واسعة وقد أسهبت الدكتورة نوال السعداوى فى شرح مظاهر أخرى لها، ولا يسمح الظرف بمزيد من الاستفاضة حول هذا البعد.
العلاقات الأسرية هى البعد الثانى فى قضية تحرير المرأة. أيا كان مركز المرأة ابنة أو أختا أو زوجة أو أما، فهى الطرف الضعيف فى ثقافتنا الذكورية فى مواجهة الابن والأخ والزوج والأب، وحتى عندما تستقل رسميا عن أسرة المنشأ وتكون طرفا فى أسرة جديدة هى فيها شريك كزوجة فإنها تستمر تحت الوصاية لولى الأمر الذى يستطيع وفقا لمسودة مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد أن يبطل زواجها بعد أن تم بدعوى عدم التكافؤ، وهى وفقا لهذا المشروع لا تملك حق استخراج جواز السفر أو السفر للخارج إلا بموافقة ولى الأمر أو الزوج، كما لا تملك الحق فى التصرف فى أموال أبنائها القصر ولا تحديد نوع تعليمهم. المزعج فى هذا الأمر أن من صاغوا مواد هذا المشروع، وينسبون مرجعيته إلى الشريعة الإسلامية لا يعرفون سيرة النبى محمد عليه السلام وقصته مع زوجته الأولى التى أخذت المبادرة فى دعوته إلى الزواج منها، وكانت هى صاحبة المال الذى ائتمنته عليه. تغيرت أوضاع العالم وأوضاع المرأة فى مصر، ومع ذلك هناك من يصرون على إبقائها فى أوضاع أسوأ مما كان عليه الحال فى زمن الجاهلية.
طبعا هذه المكانة المتدنية للمرأة فى الاستقلال الذاتى والعلاقات الأسرية هى انعكاس لإطار القيم السائد فى المجتمع، والذى يعتبر المرأة ناقصة عقلا ودينا، وغير جديرة بأن تكون مسئولة عن نفسها ولا عن ذريتها. حركة سياسية كان لها أعضاء ومشايعون تجاوزوا عشرة ملايين فى وقت من الأوقات كانت ترى مكان المرأة المشروع فى البيت ربة لعائلة، ولا يسمح لها بالعمل إلا إذا لم يكن هناك ذكر يمكنه القيام به، وصورتها فى الكتب المدرسية وفى معظم الروايات لا تظهر سوى ما تقوم به فى المنزل، تطبخ وترعى الأطفال أو تقوم بحياكة ملابس شتوية، بينما ينفرد الذكور بأدوار القراءة والقتال وفلاحة الأرض وإدارة الآلات فى المصانع.
صحيح أن وظيفة القانون أحيانا هى دفع التطور الاجتماعى، ومن هنا كان دور الحكومات المستنيرة هو الانتقال من دعوة المرأة للمشاركة السياسية من خلال الانتخاب قبل ثورة ١٩٥٢ إلى جعل الانتخاب واجبا والترشح فى المجالس النيابية جائزا بعد تلك الثورة ثم توليها مناصب وزارية للمرة الأولى وصلت بعد سنة ٢٠١٤ إلى قرابة خمس عدد الوزراء، وارتفع نصيبها من المقاعد النيابية وبحكم القانون. ومع ذلك يتردد القانون فى مصر بين دفع التطور الاجتماعى من أجل تحرير المرأة إلى الإبطاء منه بالإبقاء على بعض النصوص التى تحافظ على التفاوت فى المراكز بين الجنسين ليس فقط فى مجال الأحوال الشخصية ولكن حتى فى بعض جوانب المسئولية الجنائية.
النقلة الكبرى فى أوضاع المرأة فى المجتمعات الأكثر تقدما تحققت مع خروج المرأة للعمل. وهو الذى أدى أولا إلى تمكين المرأة اقتصاديا فصارت صاحبة عمل ولها دخلها المستقل، فزادت ثقتها بنفسها، واتسعت قاعدة المطالبة بالمساواة فى الحقوق السياسية، خصوصا بعد الدور الحيوى الذى قامت به فى صيانة ما يعرف بالجبهة الداخلية أثناء الحرب العالمية الأولى، فامتدت هذه الحقوق بعد ذلك إلى النساء. ولذلك فتمكين المرأة فى مصر يواجه هذه العقبة فى وقوف سوق العمل بالمرصاد لهن. عمل المرأة فى المنزل لا يعترف به ولا يدخل فى الحسابات الاقتصادية، ومساهمة النساء فى سوق العمل الرسمية لا تصل إلى الربع، ومعدلات البطالة بين النساء تقترب من ثلاثة أمثالها بين الرجال، كما يقل تواجد النساء فى وظائف الإدارة العليا عموما وفى القطاع الخاص المنظم على وجه الخصوص.
صحيح أن هناك قدرا محدودا من التمكين السياسى الظاهرى للمرأة. طبعا ارتفعت نسبة النساء بين أعضاء مجلسى الشعب والشيوخ، كما تولت بعض السيدات مناصب قيادية فى أحزاب سياسية، وربما زادت معدلات التصويت بين النساء. ومع ذلك ففى ظل وجود سبع سيدات بين أعضاء مجلس الوزراء، إلا أن ذلك لم يحل دون صياغة مشروع للأحوال الشخصية لا يعترف للمرأة حتى بحقها فى اختيار من يشاركها الحياة الزوجية، ومع هيمنة السلطة التنفيذية على جميع أجهزة الدولة والقيود الواقعية على حريات التعبير والتنظيم، يظل التمكين السياسى للمرأة أملا بعيد المنال.
وفى ظل هذه الأوضاع يصبح من المألوف أن تستمر النساء فى المعاناة من ممارسة العنف ضدهن. وتصل نسبة النساء اللاتى تعرضن للتحرش إلى حد مخيف يكاد يكون تجربة لم تنج منها إلا نساء قليلات، بل إن قرابة ثلث النساء المتزوجات يعترفن بأن العنف قد مورس عليهن من جانب أزواجهن. ناهيك عن شيوع حفلات التحرش الجماعى فى المدن، وخصوصا أثناء فترات الأعياد. طبعا ازداد الوعى المجتمعى بضرورة مقاومة هذا السلوك المشين، وتشددت العقوبات على من يمارسونه، وشاركت شابات وشباب فى شن الحملات لكشف المتحرشين، وساندتهم بعض أجهزة الدولة فى ذلك. ومع ذلك ما زال الطريق طويلا أمام اجتثاث هذه الظاهرة التى تحتل مصر مواقع أولى فى مدى شيوعها على مستوى العالم.
طريق التمكين
السؤال الذى يواجه الحركة النسوية فى مصر هو ما هى أولويات العمل من أجل تحقيق مزيد من العلاقات النوعية المتوازنة بين النساء والرجال؟ تشكل الثقافة الذكورية العقبة الكبرى أمام أى تطور سواء فى توسيع الاستقلال الذاتى للمرأة أو فى العلاقات الأسرية أو أوضاع سوق العمل بل وممارسات العنف وحتى الأوضاع القانونية. الثقافة الذكورية لا تتغير بسهولة وهى تكاد تكون سمة فى كل المجتمعات. لذلك لا يبقى أمام الحركة النسوية فى مصر سوى النضال من أجل التمكين السياسى للمرأة الذى يفتح الباب أمام التغيير فى علاقات السوق وفى النصوص القانونية استنادا إلى رغبة أكيدة لدى الدولة فى الانتصار للعديد من مطالب هذه الحركة كما اتضح من خطابها خلال الأسبوع الماضى.