أى دولة بالعالم تستدين بعملة غير عملتها تعرض نفسها لضغوط خارجية، وذلك لأن الدولة لا تطبع العملة الخارجية وإنما تطبع عملتها فقط. وبالتالى تعتمد الدولة التى تقترض بعملة غير عملتها على تدبير العملة الصعبة عن طريق حركة تعاملاتها التجارية، والخدمية، والمالية مع العالم وتسدد ما عليها من التزامات. ومع أى خلل فى تعاملات الدولة مع العالم تظهر الضغوط على اقتصاد الدولة وعلى عملتها الوطنية. وعادة لا تميل الدول للاعتماد على الاقتراض الخارجى إلا للضرورة القصوى. وفى هذا السياق تعتبر الولايات المتحدة استثناء لأنها لا تقترض إلا بعملتها المحلية وهى الدولار. ومن ثم لا يوجد سقف اقتصادى أمام الولايات المتحدة يحول بينها وبين الاقتراض إلى أى حد ترغب فيه. وهى تستطيع طبع ما تشاء من دولارات بدون أن يعنى ذلك بالضرورة زيادة التضخم وارتفاع الأسعار، إلا فى حالات استثنائية نادرة الحدوث.
ولكن تخضع الديون الأمريكية لسقف آخر وهو السقف الداخلى أو الحد القانونى الذى يقره الكونجرس. ولابد من موافقة الكونجرس على رفع سقف الديون لكى تستطيع الحكومة الاستدانة لسد العجز بين الإيرادات والمصروفات. فالقانون يضع سقفا للاستدانة، وبموجب ذلك تخضع عملية طبع الدولارات للسياسات الداخلية والتوازنات بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى. ولقد رفع سقف الديون الأمريكية 78 مرة فى المائة سنة الأخيرة. بمعنى آخر، هذا سلوك تقليدى وطبيعى للمالية الأمريكية. ولكن فى المرة الـ79 الحالية، يبدو أن الكونجرس لا يريد الموافقة للحكومة الأمريكية على رفع سقف الديون والاقتراض من جديد. هذا وبالرغم من أن الديون الأمريكية وصلت إلى 31,4 ترليون دولار، أى 130% من إجمالى الناتج المحلى الأمريكى البالغ 23,3 ترليون دولار، لكن ليس هذا هو السبب الذى يمنع رفع سقف الديون.
• • •
يريد الحزب الجمهورى ترويض الإدارة الأمريكية الديمقراطية. والأخيرة بدورها تعنتت ولم ترد التفاوض مع الكونجرس لرفع سقف الديون. ثم بعد الإنذار الذى أطلقته وزيرة الخزانة الأمريكية، والتى بينت فيه أن الولايات المتحدة اتخذت إجراءات استثنائية لتستطيع العمل بلا مشاكل إلى شهر يونيو. ولكنها حذرت فى نفس البيان، بأن الحكومة ستشهد شللا تاما إذا لم تحل المسألة قبل يونيو المقبل. ولقد حدث ذلك مرارا فى السابق ووصل الحزبان الجمهورى والديمقراطى لتوافق ومرت الأزمة. لكن المشكلة هذه المرة ليست داخلية، وإنما خارجية. بمعنى آخر، هناك موازين قوة تتضرر بشدة مما يجرى فى مسألة الديون الأمريكية. أهمها على الإطلاق والذى سيراه الناس رؤية العين فى الأيام القليلة الجارية هو تأخر الجيش الأوكرانى وتقدم الجيش الروسى. وذلك لأن المساعدات العسكرية والمالية المتدفقة من الولايات المتحدة إلى أوكرانيا تتراجع، بينما الاتحاد الأوروبى والناتو لا يستطيعان فعل شىء. وفى آخر اجتماع للدول الأوروبية لم يستطيعوا التوافق حول إرسال دبابات إلى أوكرانيا.
وحتى كتابة هذه السطور تراجع الموقف فى أوكرانيا على محورين. الأول، فى الشمال الشرقى حيث تطوق القوات الروسية مدينة باخموت تمهيدا لحصارها، وهى المدينة التى استعصت عليها لشهور طويلة. ولم يعد أمام أوكرانيا إلا الانسحاب منها أو سقوط المقاتلين أسرى بيد القوات الروسية. والثانى، فى الجنوب الشرقى حيث كسرت القوات الروسية خط الدفاع الأوكرانى الأول وتتقدم باتجاه زابورجيه الاستراتيجية. ولعل ذلك هو السبب وراء الزيارة السرية لرئيس المخابرات المركزية الأمريكية إلى كييف فى الأسبوع الثالث من يناير. وأطلع الجانب الأوكرانى على توقعات المخابرات الأمريكية حول الأماكن المحتملة لتطوير الهجوم الروسى، إضافة إلى الضغوط المتوقعة بعد توقف آلة المساعدات الأمريكية وتأخر الأوروبيين فى إرسال دبابات لتقوية الجيش الأوكرانى.
ولم يقتصر تطوير الهجوم الروسى على التقدم الميدانى، ولكن صاحبه تطور استراتيجى على مستوى المواجهة المالية. فلقد أدرج البنك المركزى الروسى 9 عملات جديدة من بينها الجنيه المصرى ضمن العملات التى يتم تسعيرها مقابل الروبل، بما يعنى إمكانية التبادل التجارى باستخدامها. وبذلك قد لا يخضع التبادل التجارى بين مصر وروسيا لسعر صرف العملتين أمام الدولار. بمعنى آخر، كل تعامل بين أى بلدين فى العالم يتم باستخدام الدولار، يخدم اقتصاد الولايات المتحدة حتى إن لم تكن طرفا فى التعاقد. وحال نجاح التبادل التجارى بين روسيا ومصر باستخدام عملة البلدين مقابل بعضهما البعض، فإن الاستفادة تقتصر على البلدين دون الطرف الثالث. ويبدو أن هذا الاتفاق سيتوسع ليشمل عملات أخرى. وقد يكون هذا مسار تحليل فى مقالات لاحقة حال تأكد انضمام الصين لهذه المنظومة واستخدام اليوان مقابل الجنيه.
• • •
فى سياق متصل بالنسبة لمصر، لو أن الديون المصرية بالجنيه المصرى، لما كان هناك أى مشكلة. ففى أسوأ الأحوال إذا لم تكن الإيرادات الحكومية كافية لسداد أقساط الديون والفوائد، يستطيع البنك المركزى طباعة جنيهات إضافية وسداد الديون. ولكن هذه الآلية البسيطة لا تعمل لسببين. الأول، أن الديون المصرية ليست كلها بالجنيه. وبالتالى لو زادت طباعة الجنيه عن مستوى معين فإن قيمة الجنيه أو قدرته الشرائية ستنخفض. أو بمعنى آخر، سينخفض سعره أمام الدولار. الثانى، تخضع الديون للإنفاق العام، والذى بدوره يخضع لإقرار البرلمان لموازنة الدولة للعام المالى التالى. وذلك طبقا للمادة 127 من الدستور التى حددت «لا يجوز للسلطة التنفيذية الاقتراض، أو الحصول على تمويل، أو الارتباط بمشروع غير مدرج فى الموازنة العامة المعتمدة يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة للدولة لمدة مقبلة، إلا بعد موافقة مجلس النواب». وبموجب ذلك يوجد سقف «وهمى» أو «غير مباشر» للديون المصرية مرتبطا بما يقره البرلمان من بنود موازنة الدولة وطرق تغطيتها.
ولكن الديون الحالية التى تفاقمت لمستوى ناهز 160 مليار دولار، والتى تمثل 86% من إجمالى الناتج القومى المحلى، قد تشهد تحسنا مطردا حال اعتماد التبادل التجارى بين مصر وروسيا باستخدام عملة البلدين. وذلك لأن مصر أكبر مستورد للقمح فى العالم، ونصف استيرادها يأتى من روسيا. فلو خرج الدولار من هذه المعادلة لتراجع الطلب المصرى عليه. ولو أضفنا إلى ذلك اليوان الصينى، فإن ذلك يعد انفراجة كبيرة جدا لصالح الجنيه. مما يعطى أملا بأن أحوال الجنيه قد تتحسن خلال 2023 إذا ما تم التبادل التجارى بعيدا عن الدولار. أما بالنسبة للولايات المتحدة، ستشهد الأشهر القادمة حتى مايو من هذا العام تفاعلات سياسية داخلية تؤثر على العديد من الأمور الخارجية. ولن يقتصر الأمر فقط على مسألة أوكرانيا، ولكن أيضا على مستوى التوتر مع إيران، وعلى التوازن مع الصين. ومن الصعب التكهن بما ستئول إليه الأحداث السياسية داخل الولايات المتحدة، لكن الشاهد أن صمود روسيا أمام الغرب يغير موازين لم تكن بالحسبان. ولو دخلت السعودية ضمن الدولة المتعاملة بالروبل واليوان مقابل الريال، فإن العالم سيشهد انقلابا فى كل موازينه الاقتصادية.
باحث فى مجال السياسة والعلاقات الدولية