مطلع الثمانينيات من القرن العشرين التحقت بكلية الإعلام جامعة القاهرة، عقب حصولى على مجموع معتبر بالشعبة الأدبية فى الثانوية العامة. يومها كانت كلية الإعلام المنافس الأول لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية من حيث المجموع المطلوب للالتحاق بواحدة من كليات القمة، غير أنه وبعد مرور عشرات السنوات جرت فى النهر كثير من المياه، بعضها رائق، والبعض الآخر مخلوط بالشوائب.
وبعد أن ظلت كلية الإعلام جامعة القاهرة لسنوات طويلة زهرة فريدة فى بستان الجامعات المصرية، أصبحت اليوم تشاركها 6 كليات حكومية، و 7 أقسام إعلام فى كليات الآداب، وما يربو على 15 كلية وبرنامجا وقسم إعلام بالجامعات الخاصة، وفقا لمصادر بلجان قطاعات الإعلام بالمجلس الأعلى للجامعات ولجان قطاع المعاهد.. ولك أن تتخيل عدد الخريجين الذى ستقذف به هذه الكليات والمعاهد إلى سوق عمل تعانى ندرة فى الوظائف بشكل عام، وفى الإعلام على وجه خاص.
كان منطقيا إذن أن تهبط كليات الإعلام الحكومية إلى المركز الثالث على لائحة تنسيق الجامعات هذا العام، بحد أدنى 77%، فى مؤشر على تراجع إقبال الطلاب الجدد على هذه الكليات، وهو اختيار أجده صائبا، فى ظل ما تعانيه الصحف المصرية والعديد من القنوات التلفزيونية الرسمية والخاصة، من مشكلات اقتصادية تجعل من توفير فرصة عمل لخريج جديد، لا نقول مستحيلا، ولكن بشق الأنفس.
ومع بدء تنسيق الجامعات، قبل أسابيع، تفجرت معركة وسط عدد من الزملاء العاملين فى بلاط صاحبة الجلالة أو فى القنوات الفضائية، وجلهم من خريجى إعلام جامعة القاهرة، بين ناصح بالابتعاد عن الكلية العريقة، ومدافع عن حق كل جيل فى اختيار ما يروقه من الكليات، على الرغم مما تعانيه سوق العمل فى الإعلام من شح للفرص، وتقلص فى عدد الوظائف، لأسباب متعددة يعلمها المطلعون على تفاصيل ما يدور فى أروقة الصحف ووسائل الإعلام المختلفة.
وفى يوليو 2019 خاض الزملاء فى جدل مشابه، وكأحد خريجى كلية الإعلام جامعة القاهرة، ممن لا يقبلون المزايدة على حبهم وفخرهم بالانتماء إلى هذه الكلية العريقة، نصحت يومها الأبناء والآباء، ألا ينساقوا وراء إغراء المجموع الكبير، وأن يعلموا أن الصحافة أشغال شاقة مؤبدة، فمن يختارها يجب أن يتسلح بالإرادة والتصميم على مواجهة كل الصعوبات، فهى رسالة وليست وظيفة.
الجديد هذا العام هو دخول عدد من أساتذة الإعلام لساحة الجدل المثار بشأن جدوى هذا الكم الهائل من كليات ومعاهد الإعلام، تقودهم «عصبية قبلية»، حينا وربما «وظيفية»، حينا آخر، فانبروا فى الدفاع عن «عراقة» كلية الإعلام، واتخذ بعضهم نفرا من العاملين فى القنوات الفضائية ممن يتقاضون الملايين من الجنيهات نموذجا للتأكيد على أن الإعلام لا يزال يجلب الشهرة والمال، متجاهلين من يتقاضون الملاليم، وأولئك الذين يجلسون على الأرصفة بحثا عن فرصة.
وبدلا من أن يركز بعض هؤلاء الزملاء ممن اختاروا الحقل الأكاديمى وظيفة على تأهيل الطلاب ورفع مستواهم العلمى، الذى لم يعد كما كان قبل عشرين عاما على الأقل، سمعنا قولا عجبا وهجوما على «القلة المندسة» التى تحاول التقليل من أهمية كليات الإعلام!
ومن واقع تجربة عملية تفوق الثلاثين عاما، استقبلت خلالها زملاء جددا تخرجوا فى كليات الإعلام، فإن الملحوظة الأساسية هى تراجع المستوى العلمى، وحتى الشغف والطموح والاستعداد الشخصى للعمل تحت الضغط، والاهتمام بتطوير الذات معرفيا، وإدراك الدور الذى ينتظره المجتمع من هذا الخريج الذى يجد نفسه تائها وسط بحر هائج الأمواج.
يا سادة هناك فرق واضح بين النصح والإرشاد والمطالبة بتقليل أعداد المقبولين بكليات الإعلام، وفقا لاحتياجات سوق العمل، وبين بيع «الأحلام»، ولا نقول «الأوهام» لطلاب حديثى السن، من أجل استمرار عجلة «الأكاديميات» فى ضخ الأرباح لاصحاب الجامعات والمعاهد الخاصة التى تتوالد مثل الأرانب بما جعل الكم يدمر الكيف، ولنحصل فى النهاية على خريج متواضع العلم والمعرفة، ثم نتباكى بعد ذلك على الفرص الضائعة!