أوروبا انهزمت فى بريطانيا من خلال استفتاء بريكزيت. لكنّها ما لبثت أن انتصرت فى هولندا. ويُرجّح أن تنتصر أيضا فى فرنسا يوم 7 أيّار (مايو) المقبل بإسقاط مارين لوبن، بعد إسقاط جان لوك ميلانشون فى الدورة الانتخابيّة الأولى. وحتما سوف تنتصر فى ألمانيا، أفاز المسيحيّون الديموقراطيّون أم الاشتراكيّون الديموقراطيّون.
الوجهة العامّة تفيد بانتصار الخيار الألمانيّ المنفتح، وهزيمة الخيار الانعزاليّ لبريطانيا.
تخبّط البريطانيّين، بعد بريكزيت، إشارة مفيدة إلى أنّ المشروع اللاأوروبى ليس مشروعا. إنّه زفرة غضب، والغضب لا يملك اقتراحا للمستقبل.
كلام المستشارة أنجيلا ميركل الأخير والمتشدّد يُظهر حجم المأزق البريطانيّ. يضاف إليه ما يقدّره رسميّو الاتّحاد الأوروبيّ من أنّ البريطانيّين مطالَبون، وفقا لقواعد موازنة الاتّحاد، بدفع 60 بليون يورو (65 بليون دولار) فى سياق الطلاق مع الاتّحاد.
أوضاع دونالد ترامب، بوصفه سيّد الموجة الجديدة التى يقلّدها مناهضو أوروبا الأوروبيّون، لا تسرّ مُحبّا لترامب: فى الشهر الأوّل من عهده، كان يفاجئنا، بإيقاع شبه يوميّ، بمواقف وقرارات تنفيذيّة كلّ واحد منها يتجاوز سابقه صخبا. فى الشهر الثالث من عهده، بات يفاجئنا، وبإيقاع شبه يوميّ أيضا، بإلغاء تلك المواقف والقرارات: الناتو ليس بائدا. الحائط مع المكسيك ليس واردا. إلغاء أوباما كير صعب. منع المسلمين من دخول البلد أصعب. روسيا ليست صديقة. الصين ليست عدوّا، وقد تكون حليفا فى كوريا... وهكذا دواليك ما ينمّ عن استحالة تحويل الغضب الشعبويّ إلى سياسات وبرامج.
ترامب ليس المرجع الصالح كى يقلّده الأوروبيّون، تماما كما أنّ فلاديمير بوتين ليس الصديق الذى تطمئنّ أنظمة ديموقراطيّة إلى صداقته.
طبعا لا يعنى ذلك أنّ نجاح المشروع الأوروبيّ هو بذاته الهدف الذى يلغى كلّ هدف آخر. رفاه الأوروبيّين وتحسين أوضاع المتضرّرين من العولمة وتطوير برامج اجتماعيّة تفيد الأفقر والأضعف والتذليل التدريجيّ لـ«بيروقراطيّة بروكسيل»... هى أيضا أهداف نبيلة وكبرى. لكنّ التقدّم نحو هذه الأهداف فى ظلّ المشروع الأوروبيّ أكثر إمكانا وأرفع احتمالا بلا قياس من إنجازها وسط العزلة القوميّة و«الوطنيّة الاقتصاديّة» التى تزعمها لوبن. وهذا ناهيك عن توفير أجواء أنظف للحياة السياسيّة: أقلّ عنصريّة وكرها للغريب والمسلم، وأكثر احتفالا بقيم المساواة والتنوير.
السياسيّون الذين هم كإيمانويل ماكرون قد لا يكونون المرشّحين الصالحين لإحداث تلك التحوّلات الضخمة، لا سيّما فى المجال الاقتصاديّ. لكنّ شعبويّى اليمين واليسار يخطئون كثيرا إذ يتصوّرون أنّ كسر أوروبا شرط لتحقيق الرغبات النبيلة التى تغدو، والحال هذه، أوهاما مكلفة. مع ماكرون تبقى فرنسا فى أوروبا، ويبقى الباب مفتوحا للتغيير. مع لوبن وميلانشون، تخرج ويُغلَق الباب. وفى الحدّ الأدنى، وكما كتب البعض مساجلين ضدّ يساريّى ميلانشون ممّن قد يؤيّدون لوبن: معارضة ماكرون ممكنة. معارضة لوبن مستحيلة.
طبعا، مع الشعبويّين، فى اليمين واليسار، نسمع كلاما أكثر كثيرا عن «الشعب» و«الحرمان»، ونشهد صورا للمرشّحين مع عمّال المصانع المغلقة وصيّادى السمك، على ما فعلت مارين لوبن قبل يومين. لكنّنا أيضا نسمع ونشهد عجزا أكبر عن مخاطبة العقل واقتراح الحلول الممكنة.
زفرات الغضب الشعبوى التى يطلقها هؤلاء ويستثمرونها، قد تنتصر فى بلد معيّن وفى ظرف ما. لكنْ يصعب أن تنتصر على نطاق قارّة بأكملها وفى كلّ الظروف. فأوروبا تقاوم، وحين تقاوم يقاوم معها العقل والمصلحة والقيم. ومن دون الوقوع فى أيّة حتميّات، يُرجّح أن تنتصر أوروبا وينتصر تحالفها المديد مع العقل والمصلحة والقيم. هذا أفضل لأوروبا. هذا أفضل للعالم. أمّا العناوين الأخرى فتأتى فى المرتبة الثانية.
الحياة ــ لندن
حازم صاغية