(1)
تسعون عامًا مرت على تأسيس الإذاعة المصرية؛ أم الإذاعات العربية والإسلامية، وفى منطقة الشرق الأوسط كله. «الراديو» ذلك الاختراع العجيب الذى لعب أكبر الأثر فى تنمية الخيال والحس الجمالى والتذوق وانفتاح الآفاق لدى الملايين منذ عام 1934 حتى وقتنا هذا.
على مدى سنوات وأنا أتتبع هذا الأثر الجذرى فى يوميات ومذكرات وسير كبار المبدعين والكتاب والمثقفين، ما من علم من أعلام الثقافة المصرية والعربية فى القرن العشرين لم يتأثر بالإذاعة، ولم تشكل رافدًا أساسيًا من روافد التكوين الثقافى والمعرفى التى شكلت وجدانه ووجهت تفكيره، ولعبت دورًا حاسمًا فى رسم الملامح العامة لما يمكن تسميته بمسيرة الحياة والمشروع المهنى والإنجاز الثقافى؛ ستكون الإذاعة المصرية وبرامجها المتنوعة وموادها التى ليس لها مثيل أو نظير أحد أبرز العوامل وأهم العناصر التى ساهمت فى هذه الرحلة.
(2)
كتبت كثيرًا، وتفصيلًا، عن نموذج من هذه النماذج، وهو برنامج «كتاب عربى علم العالم» الذى فتح بصرى وبصيرتى على روائع تراثنا العربى (ومعه أيضًا برنامج «قطوف الأدب من كلام العرب» كنت أدون بعض الأشعار والمأثورات التى تتردد فى البرنامج فى كراسة خاصة أحفظها عن ظهر قلب).
لكنه لم يكن منفردًا ووحيدًا فى هذه الدائرة. أتذكر الآن البرنامج الذى أسرنى وأشعل خيالى وجعلنى لا أدخر جهدًا ولا طاقة ولا مالًا فى سبيل الحصول على واحدة من موسوعاتنا التراثية الباهرة. أقصد كتاب (الأغانى) لأبى الفرج الأصفهانى.
بالتأكيد لم أكن أعرفه ولا قرأت عنه وأنا فى العاشرة من عمري! لكنى استمعت إلى حلقات البرنامج العظيم (من كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى) الذى كان يعده للإذاعة ويخرجه فتح الله الصفتى. ويقوم بدور الراوى الفنان عبدالفتاح البارودى الذى كان مجرد الاستماع إليه كفيلًا بأن أترك كل ما فى يدى، وأغمض عينى، وأستمع إلى روايته الفصيحة المنغمة الموقعة لحكايات وقصص الشعراء العرب من عمر بن أبى ربيعة إلى قيس الرقيات، ومن ديك الجن إلى أبى نواس، ومن الضحاك إلى شعراء الحب العذرى.. إلخ.
أتصور أننى لم أكن لأُغرم بكتاب «الأغانى» وطبعاته المتعددة، ولا ما كتب عنه ولا ما يتصل به من كتب ودراسات ومقالات إلا بفضل الإذاعة المصرية، وبرامجها الرائعة.
(3)
ولم يكن الحس التراثى فقط هو الذى أيقظته الإذاعة فى وجدانى وذهنى، إنما أيضًا ما يتصل بأعلام أدبنا وفكرنا المعاصر؛ ومن ينسى برنامج الإذاعية الراحلة نادية صالح «زيارة لمكتبة فلان» أو برنامج «شاهد على العصر» الذى استمعتُ فيه لعمالقة الفكر والأدب والثقافة فى عالمنا العربى (من ضيوفه الكبار آنذاك: زكى نجيب محمود، لويس عوض، توفيق الحكيم، حسين فوزى، نجيب محفوظ، ثروت عكاشة، أسامة أنور عكاشة، مصطفى محمود.. إلخ).
حينما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988 كنت فى العاشرة من عمرى؛ لم أكن قرأت له شيئًا، فقط شاهدت بعض الأفلام المأخوذة عن روايات له، لكنى أذكر جيدًا أننى كوَّنتُ تصورًا مستوعبًا ومتماسكًا عن نجيب محفوظ وأدبه، وتصوراته الإنسانية، والفكرية والثقافية، من خلال ما استمعتُ له فى برامج الإذاعة التى تسابقت لبث حلقات عنه عقب فوزه أو تسجيل حلقات أخرى تواكب الحدث الكبير. المادة الإذاعية التى سجِّلَت مع نجيب محفوظ وحدَها مكتبة كبرى، وذخيرة معرفية وثقافية دائما ما أشير إليها وأسميها بـ«الحواريات النادرة والأحاديث المجهولة»؛ وللأسف لم تحظ هذه الحواريات الإذاعية لأديب نوبل الكبير (ويمكن أن نضيف إليها أيضًا أحاديثه المرئية) باهتمام كثير من الباحثين، قدر الجوانب المختلفة والمتعددة من إبداع محفوظ، ولهذا أخذت أدعو منذ سنوات طويلة إلى الاهتمام بها والتركيز عليها والنظر فيها؛ وهو ما بدأ يثمر على استحياء وخفر فى السنوات الأخيرة؛ وإن لم يصل بعد إلى الاهتمام المنشود.
(4)
أجرى هذه الحواريات - مع نجيب محفوظ - إذاعيون لامعون كبار فى مراحل مختلفة من عمره، وإن كان أقدمها التى وصلت إلينا كانت بعد أن تجاوز السبعين من عمره. لم يكن نجيب محفوظ روائيًا فذا فقط، بل كان محاورًا من طراز رفيع، شهد كل من حاوره بأنه كان سريع البديهة حاضر الذهن حلو اللسان، خفيف الظل، تميز بنكاته و»قفشاته»، المعبرة عن عمق انتمائه وإخلاصه لروافد تكوينه الأولى ونشأته فى حى الحسين العريق، احتفظت حوارياته المسجلة بطزاجتها وتمتعها بقيمتها التاريخية التى لم تخبُ رغم مرور سنوات على تسجيلها، وكذلك لآرائه وتصوراته وبعض أفكاره التى طرحها ودلَّت على مدى انفتاح آفاق الخيال لدى محفوظ وقدرته الرهيبة على طرح الأسئلة الافتراضية حول المستقبل ومحاولة الإجابة عنها بإبداعية نادرة. سأظل مدينًا عمرى كله للإذاعة، وواحات الإذاعة، وكنوزها التى لا تنضب أبدًا.