نشرت صحيفة الحياة اللندنية مقالا للكاتبة «فاتنة الدجانى» جاء فيه: نسمع باستمرار هذه الأيام، وعلى لسان أكثر من سياسى عربى، تحذيرات مما قد يحمل مارس من خطرٍ داهم، وربما عقاب متضمن فى «صفقة العصر» التى تحبك خيوطها إدارة الرئيس دونالد ترامب.
هذا التوجس لا يتعلق بفحوى «الصفقة» وحده. فالرؤساء الأمريكيون، فى نصف القرن العشرين، جربوا «مبادراتهم» فى المنطقة وفى مفاصل الصراع العربى ــ الإسرائيلى، لكنهم مضوا جميعا دونما تأثير يُذكر، باستثناء اتفاق كامب ديفيد الذى صار البوابة الإجبارية لعبور المنطقة إلى مستقبلها فى كل كبيرة وصغيرة.
لا. هذا التوجس مرده إلى أن «صفقة العصر» لا تتم بالتفاوض أو التراضى الإقليمى والدولى، كما فى كامب ديفيد أيام الرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر، بل عبر إملاءات يضع فيها ترامب الأطراف جميع أمام الأمر الواقع، ويصبح المطلوب من الجميع التنفيذ القسرى، وعلى حساب المنطقة.
هذه الأيام، لم تعُد سرا الخطوط العريضة للإملاءات الأمريكية، بدلالة ما رشح من تفاصيلها فى غير محفل، وبما لمسناه فى التعامل مع قضية فلسطين. فالرئيس الأمريكى يزيح عن الطاولة الملفات الأساسية واحدا تلو الآخر، بدءا من الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، وإسقاط صفة «محتلة» عند الحديث عن الأرض الفلسطينية، إلى تجميد الدعم لـ«وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا) كخطوة أولى نحو إلغاء «حق العودة»، ثم استتباعا، وبالضرورة، فرض «توطين» اللاجئين الفلسطينيين فى البلدان المضيفة، لبنان والأردن وسورية ومصر، وهذا أقل الأخطار وأوضحها.
لذلك، غريب أن يفاجئ الغضب الفلسطينى الأمريكيين. ماذا كانوا يتوقعون؟ أن يشكرهم الفلسطينيون مثلا! شكا ترامب ازدراءهم لإدارته، وواصل نزع «المكافآت» التى منحتها الإدارات السابقة للسلطة الفلسطينية فى إطار عملية السلام، ليكشف أن كل لفتة أمريكية تجاههم ليست سوى مادة ابتزاز مستقبلى. هكذا يجب أن يُفهم تجميد المساعدات المالية الأمريكية، والتهديد بإغلاق مكتب منظمة التحرير فى واشنطن، وتجميد جزء كبير من المساعدات لـ «أونروا»، ومحاولات التضييق دوليا على السلطة. فهل يُدرك ترامب أنه، بيده، يُقوّض اتفاق أوسلو الذى يتضمن الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف؟ وهل هذا ما تريده الدولة العبرية؟ على كل حال، الرئيس محمود عباس أعلن أن «أوسلو» انتهى، فماذا بعد؟
لا بأس فى أن يشعر ترامب بالإهانة، كما قال وليد جنبلاط. لكن الحقيقة أن «صفقة العصر» ليست رد فعل، بل هى خطة ومؤامرة، سقفها وفحواها إسرائيليان. لو لم تكن كذلك، لكان ترامب بادر بالقوة نفسها التى أزاح فيها ملف القدس عن طاولة المفاوضات، وبالمنطق والحجج ذاتها، ومن دون أى اعتبار لرد فعل العالم، إلى إزاحة ملف المستوطنات، فلماذا لم يفعل؟
المعضلة لن تقف عند حدود فلسطين، فكما كانت مركزيةُ قضيتها، تاريخيا، وراءَ رسم خرائط المنطقة منذ مطلع القرن العشرين، فإن حلها بهذا العسف، وبتلك السطوة والعنجهية، وفى إطار الرؤية الإسرائيلية، سيمس المنطقة بمجملها، ولسان حال ترامب يقول: شاء من شاء...
كيف سيكون تأثير ذلك على الإقليم وعلى كل قُطرٍ على حدة وكل شعب، هو سبب التوجس، إضافة إلى الحذر من العقاب، والكل فى حال انتظارٍ لما ستتفتق عنه مؤامرات الغرف الأمريكية المظلمة. والموعد مارس المقبل.
فى روما القديمة، كان منتصف مارس موعدَ تحصيل الإمبراطورية الرومانية ديونها من الأفراد والأقاليم، فهل تعمّد ترامب اختيار هذا الشهر تحديدا من أجل تحصيل ديون يراها مستحقة؟ هذا التاريخ استنطقه الشاعر الإنجليزى العظيم فى مسرحية «يوليوس قيصر» حين حذّره عرافٌ من أخطارٍ تهدد حياته فى منتصف مارس، فكان فعلا يومَ اغتياله الشهير، فى المسرحية وفى الواقع، عبر مؤامرة شهدت خيانة صديقيه كاسيوس وبروتوس، التى قال القيصر فيها عبارته الشهيرة: «حتى أنت يا بروتوس»!
ها هى إذًا تراجيديا شكسبيرية بكامل أهليتها ولا شاعريتها تُهدد المنطقة، وليس فلسطين وحدها. أهو الشرق الأوسط الجديد يُفرض بالقوة؟
لن تكون «صفقة العصر»، بالوعى المُسبق لها، قدَرا لكى نقول «لا يُغنى حذرٌ عن قدر».
حذارِ من منتصف مارس.
الحياة ــ لندن