ليس جديدا، ولا مستغربا هذه الأيام، أن يرحل شخص عن عالمنا، ويقيم له الناس محاكمة على السوشيال ميديا، أقرب إلى جلسات المصاطب، التى يلوك الجالسون عليها سمعة الآخرين. هذا بخلاف مشاعر الشماتة، والتعبير عن الكراهية فى بعض الأحيان.
الأسبوع الماضى، رحل عن عالمنا المذيع عاطف كامل، وهو إعلامى مثقف، بدأ حياته صحفيًا فى مجلة «صباح الخير»، وانتقل بعدها إلى التليفزيون، حيث قدم برفقة صديقه الإعلامى عزت حزقيال برنامج «لو بطلنا نحلم»، تجربة شبابية فى التسعينيات، ناقش قضايا مهمة تتعلق بالشباب، والمشاركة، والإعلام، وارتفع فيه سقف الحديث، وقدم نموذجا للحوار النقدى، وبعد ذلك قدم برامج فى التلفزيون المصرى، وكان له إسهام فى الإعلام المسيحى، ليس هذا فحسب، بل كان مشاركا فى منتديات إعلامية، وثقافية، خاصة فى المجلس الأعلى للثقافة، حيث كان عضوا فى إحدى لجانه. وقد اتسم بالجرأة والاستنارة فى دفاعه عن الدولة المدنية، والحريات العامة.
رحل عاطف كامل، الذى أتم بالكاد عامه الستين، وسط ذهول أصدقائه وأحبائه، فقد كان مرحًا، منطلقا، أنيقًا، مهتمًا بمظهره. نعاه كثيرون بعبارات مؤثرة، وحرصوا على نشر صورهم معه فى مناسبات مختلفة، لكن هناك من تطفل على المناسبة الحزينة، وخاض فى حياة الراحل الأسرية الخاصة، وتجاربه فى الزواج، دون أن تكون لديه معلومات يبنى عليها، أو صورة كاملة عن حياته، ونشرت مواقع إلكترونية خبر رحيله ممزوجًا بإِشارات إلى وجود خلافات مع مطلقته، مما دفع زوجته الأولى إلى التبرؤ من ذلك، مؤكدة أنها انفصلت عنه، ولم تكن طرفا فى خصومة معه. وبلغ الحد أن أحد الأشخاص طالب بمعرفة أسباب طلاقه الأول، وزواجه الثانى بعد الترحم عليه بالطبع!
سئمنا المصطبة الإلكترونية، التى يستسهل فيه الناس الخوض فى خصوصيات غيرهم، وحياتهم الخاصة، ويعتبرون أنفسهم أوصياء على الآخرين، وكأن حياة الناس صارت مشاعا، كل من هب ودب يخوض فيها.
ما هذا الهزل؟ الذى يجعل كل شخص يبدى رأيا فى شىء يخصه أو لا يخصه، المهم أن يتحدث، ويطلق تغريدات وتدوينات يقول من خلالها «أنا هنا». وقد يكون فى الأمر سخف لا يحتمل مثلما توعد البعض القاضى الرحيم فرانك كابريو بعد موته بجهنم وبئس المصير، وهو الرجل الذى شد انتباه العالم كله بمشاهد الرحمة والعدل واللطف فى قاعة المحكمة أو يتساجل البعض حول عقائد غيره، أو يخوض فى خصوصياته، ونظرا لأن الناس تكتب فى السوشيال ميديا ما تشاء بغير حساب أو ضوابط، فإن خصوصيات الناس صارت مهددة، وأسرارهم منتهكة، تحيط بها أكاذيب وترهات، لا يستطيع بعضهم الدفاع عن نفسه إما لأنه رحل عن عالمنا، أو أن الشخص الذى يخوض فيه الآخرون يكون فى ذمة الله، ولا يملك الدفاع عن نفسه أو شرح حقيقة الموقف إزاء من هم ليسوا مخولين أو أهلا لمعرفة خصوصياته.
للأسف نحن أحيان نسىء لأنفسنا عندما نطرح همومنا، وأمورنا الخاصة، وصورنا الشخصية على السوشيال ميديا مما يدفع الغير إلى التعليق، والإساءة، ودس الأنف فى حياتنا الخاصة، وكأننا نفتح الباب أمام الغير لإزالة الحواجز، واستباحة الخصوصية.
من هنا ليس غريبا أن نطلق على السوشيال ميديا «المصطبة الإلكترونية»، فقد تحول جانب منها إلى أحاديث النميمة والفراغ، خالية من المضمون إلا من تفاهات الحياة، وخصوصيات الناس، والتعليقات الساخنة على الأحداث، وتبادل الشتائم. هذا لا يعنى غياب وجود جانب راق، مثقف، يبنى الوعى على السوشيال ميديا، ولكن العملة الرديئة تطرد الجيدة، والهزل أكثر انتشارا من الجد.