اللافت فى الاحتجاجات التى شهدتها عدة مدن فرنسية، واتسمت بأعمال عنف ونهب وفوضى، أن جزءا كبيرا من الذين وقفوا خلفها كانوا مراهقين لا تتجاوز أعمارهم 17 عاما، وهو العمر نفسه للشاب الفرنسى ذى الأصول الجزائرية ــ المغربية نائل المرزوقى الذى أشعل مقتله برصاص شرطى فى ضاحية نانتير الباريسية، الأحداث وأجبر السلطات الفرنسية على نشر 45 ألف شرطى قبل تراجع حدة العنف فى اليوم الخامس.
فحسب وزير الداخلية الفرنسى جيرالد دارمانان فإن متوسط أعمار من ألقى القبض عليهم هو 17 عاما، بينما أشار وزير العدل الفرنسى إريك دوبون موريتى إلى أن 30% ممن تم احتجازهم (1300 محتجز فى يوم واحد فقط) لا تتجاوز أعمارهم 18 عاما، وأن من بين الموقوفين صبية فى المرحلة الثانوية، وآخرين من عمال المطاعم والمقاهى، والأهم أن غالبيتهم ليس لهم سجل إجرامى، وفق العديد من التقارير الإخبارية.
لكن أخطر ما رصدته وكالة الصحافة الفرنسية فى أحد تقاريرها أن الشبان صغار السن المشاركين فى الاحتجاجات كانوا على درجة عالية من التنظيم، ويعتمدون طرقا منظمة للتعامل مع الشرطة، ففى أحد الأحياء الواقعة غرب باريس «تولت مجموعات شبابية مهمة مراقبة مداخل الحى لإخطار البقية عند رصد أى تعزيزات أمنية، فى حين يتجول بين المجموعة والأخرى للغرض ذاته عدد من راكبى الدراجات النارية التى أخفيت لوحاتها، بينما تتوزع داخل الحى مجموعات رابعة مهمتها التصدى لقوات الشرطة وإطلاق المفرقعات والأسهم النارية باتجاهها.
الرئيس الفرنسى الذى اضطر تحت وقع الاحتجاجات العنيفة إلى إلغاء زيارة دولية كانت مقررة إلى ألمانيا، اتهم مواقع السوشيال ميديا ومنصات ألعاب الفيديو بالضلوع فيما يجرى، قائلا إن بعض الشباب «يطبقون فى الشارع ما يعيشونه فى ألعاب الفيديو التى سممتهم». ووجه ماكرون أصابع الاتهام تحديدا إلى منصتى «سناب شات» و«تيك توك»، معتبرا أن المنصتين «تثيران شكلا من أشكال محاكاة العنف، ما يؤدى فى صفوف الأصغر سنا إلى شكل من أشكال الخروج من الواقع».
اتهام منصات التواصل الاجتماعى لم يمنع الحديث عن الإحساس بالتهميش الذى عبر عنه عدد كبير من الشباب المشاركين فى الاحتجاجات «تنفيسا عن الغضب لشعورهم بالظلم»، بينما أرجع جزء آخر منهم الانخراط فى الأحداث إلى تعامل الشرطة العنيف و«العنصرى» مع أبناء الضواحى التى فشلت الحكومات الفرنسية فى احتوائهم ودمجهم فى المجتمع الفرنسى، إلى درجة اتهام تلك الحكومات باتباع سياسات «تجميلية» فى التعامل مع العشوائيات التى يرقد فيها ملايين المهاجرين، وخاصة المنحدرين من شمال القارة الأفريقية.
اتهام الشرطة الفرنسية بالعنصرية لم يكن على لسان المحتجين فقط بل جاء أيضا خلال مؤتمر صحفى للمتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان رافينا شمداسانى التى طالبت فرنسا بمعالجة «مشكلات العنصرية والتمييز المتجذرة فى صفوف قوات الأمن» وهو اتهام سارعت الخارجية الفرنسية إلى نفيه مؤكدة أن «أى اتهام لقوات الشرطة فى فرنسا بالعنصرية أو التمييز المنهجى لا أساس له من الصحة».
وبين اتهام الشرطة بالعنصرية ودفاع باريس عن جهازها الأمنى فإن الثابت أن هناك شعورا، لا يمكن إنكاره، وسط أبناء الضواحى بالتمييز ضدهم، وعدم المساواة رغم حديث فرنسا الرسمية عن خطط للدمج والصهر، لكن الواقع على ما يبدو بعيد عن تلك الأحاديث، ما يجعل المشكلة قابلة للتكرار، فالتهميش الذى يعيشه سكان الضواحى، سيظل قنبلة موقوتة قد تنفجر من جديد فى رأى المراقبين.
مخزون الغضب الذى عبر عنه المراهقون الفرنسيون، من أبناء الضواحى، بحرق وتدمير المؤسسات العامة، ونهب المحال التجارية، جرس إنذار ليس لفرنسا وحدها بل للعديد من البلدان التى لديها شرائح شبابية واسعة تعانى التهميش والظلم، بينما يمسك هؤلاء فى أيديهم أحدث أجهزة التواصل الإنسانى التى تحلق بهم بعيدا خارج جدران منازلهم الضيقة.