حكاية جيل الثمانينيات المصرى - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:33 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكاية جيل الثمانينيات المصرى

نشر فى : السبت 4 أغسطس 2018 - 9:40 م | آخر تحديث : السبت 4 أغسطس 2018 - 9:40 م

بعد دقائق قليلة من إعلان إغلاق إحدى الفضائيات المصرية وغموض مصير العاملين فيها ومعظمهم من شباب فى الثلاثينيات من العمر كتب أحد الأصدقاء الإعلاميين رسالة هى أقرب لمرثية لمصير شباب الإعلاميين واصفا أحوال هؤلاء الشباب وعدد كبير منهم لديه أعباء ومسئوليات وأسر وأطفال يعولونها، طالبا من الأصغر سنا توخى الحذر قبل الإقبال على مهنة الإعلام فى مصر نظرا لمحدودية سوقها وتعاظم المخاطر المتعلقة بطبيعة العمل الإعلامى فى مصر والتى أصبح أقلها سوءا هو أن تفقد عملك فى لحظة وتصبح بلا مهنة هكذا ببساطة!
ذكرتنى كلمات هذا الصديق بكلمات مماثلها قلتها فى جلسة ودية جمعتنى ببعض الشباب العربى فى بيروت قبل سنتين تقريبا عن مستقبل العلوم السياسية فى العالم العربى وفى مصر حين صارحتهم أن دراسة العلوم السياسية تفقد أهميتها تدريجيا فى العالم العربى لأن النظريات التى يتم تدريسها وفى معظمها غربية صممت لدراسة ظواهر لا تكاد متواجدة فى العالم العربى وحتى تلك النظريات الأحدث نسبيا التى أصبحت مخصصة لدراسة منطقتنا أصبحت تعرض المنشغلين بها لمصاعب عديدة لأن بحث الظواهر السياسية أصبحت مهنة شديدة الخطورة على المشتغلين بها!
فى الكتابات الغربية هناك اهتمام بدراسة هذا الجيل وله أسماء عديدة منها جيل «الألفية» والذى يبدأ منذ الثمانينيات ويستمر حتى نهاية التسعينيات ويتمتع بالعديد من الصفات منها القدرة على استخدام التكنولوجيا ونمط الحياة السريع والانفتاح على العولمة والتعود على نظام غذائى مختلف معتمد بالأساس على الوجبات السريعة. غير أن هناك خلافات حول تعيين حدود هذا الجيل فالبعض يرى أن سمات جيل التسعينيات وبداية الألفية تختلف عن جيل الثمانينيات الذى يشارك العديد من الصفات مع جيل السبعينيات مقارنة بجيل التسعينيات وهكذا.
***
أعتقد أننا لو ضيقنا البحث بالتركيز على الحالة المصرية فإن مواليد عقد الثمانينيات من القرن الماضى لديهم بالفعل العديد من الصفات الخاصة التى تجعل تحليله ككتلة متماسكة أمرا ذا أهمية ومغزى. مواليد هذه الفترة هم الآن فى الثلاثينيات من العمر، عدد كبير منهم تزوج ويعول بين طفل واثنين فى المتوسط، الكثير منهم هم من أبناء الطبقة الوسطى بتنويعاتها نشأ معظمهم فى بيئات محافظة تحترم الدين والأخلاق والدولة القومية (الوطنية)، تعلم معظمهم فى ظل تعليم حكومى بين عادى وتجريبى كان به الحد الأدنى من الكفاءة، ثم أكملوا طريقهم فى التعليم العالى المجانى فى جامعات حكومية أيضا.
نشأ عدد كبير من هؤلاء فى بيئات «مضبوطة» بواسطة السلطة، احترام كبير لمكانة الدين وموقع رجاله ورموزه، أبوان عادة ما يؤديان الصلوات الخمس أو على الأقل بعضها أو يذهبان بانتظام إلى الكنيسة فضلا عن مكانة مقدسة لصلاة الجمعة أو عظات الأحد (تحولت تدريجيا إلى عظات الجمعة)، إعلام حكومى موجه وممثل فى عدد محدود من قنوات الدولة، فضلا عن التعليم الحكومى أو التجريبى أو حتى الدينى المضبوط بواسطة الدولة. معظمهم نشأ فى أسر مستقرة (بلا طلاق أو انفصال)، أب وأم يعملان فى وظائف مرتبطة بالدولة، فترة اقتصادية تتمتع بقدر من الاستقرار أيضا رغم بوادر ظهور الآثار السلبية للانفتاح، بواقى قيم اشتراكية أثرت على وعيهم وقيمهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كما شكلت بعضا من ذوقهم الفنى، فأكتوبر هو الفخر، العروبة مازالت حلما، إسرائيل هى العدو رغم معاهدة السلام...إلخ.
مصر الثمانينيات التى تربوا فيها وكانت فيها تنشئتهم السياسية، كانت مصر الأهرام والأخبار والجمهورية، كانت مصر القناة الأولى والثانية وأفلام الواقعية التى بقدر ما حملت نقدا للأوضاع بقدر ما مررت قيما وشحنت حنينا ورغبة فى الاستقرار والإصلاح السلمى. مصر مبارك بحثت فى تلك الفترة عن مصالحة محسوبة مع الإسلاميين وعلى صناعة بيئة سياسية تتمتع بقدر من التعددية المقيدة والمحسوبة، مصر مبارك فى تلك الفترة دعمت حملات قومية للقراءة والنشر والثقافة وتنظيم الأسرة ومعالجة الجفاف، باختصار دولة مستقرة، مجتمع مضبوط سلطويا ولكن بشكل سلمى وقليل الشحن والمواجهات المباشرة رغم بعض الحوادث هنا وهناك، فضلا عن أسر مستقرة ومحافظة.
تدريجيا ومع فترة البلوغ والمراهقة لهذا الجيل وقد وصلنا إلى منتصف التسعينيات، فقد تغيرت الحياة التى يعيش فيها هذا الجيل سريعا المزيد من آثار الانفتاح السلبية بدأت فى الظهور، ضغوط معيشية أجبرت العديد من أرباب الأسر على القيام بأكثر من وظيفة، تعليم مجانى، ولكنه بدأ تدريجيا فى التدهور السريع مع تزايد حاد فى ظاهرة الدروس الخصوصية، ظهور محتشم لعصر الفضائيات، حالات فساد ارتبطت بكوارث كبرى مثل غرق العبارة سالم إكسبريس أو انهيار البيوت عقب زلزال 1992 بدأت فى هز تلك الصورة المثالية عن الدولة وانحيازها ووطنيتها، طريقة جديدة وأكثر حداثة وسرعة للأغنية، اتجاه جديد للفن ترك مرحلة الواقعية واتجه نحو المزيد من الكوميديا أو الرومانسية الخفيفة أو ما كان يسمى وقتها السينما الشبابية، لكن كان التغيير الأكبر بالقطع هو تلاشى هذا الاستقرار تدريجيا إقليميا مع انهيار اتفاقيات السلام (مدريد وأوسلو)، ضرب العراق والتحالفات العسكرية الغربية الخليجية التى أنهت تماما معانى العروبة بينما كان الإرهاب ينهش فى الداخل وسط مواجهات شديدة العنف بين الدولة والإسلاميين، مع ارتفاع وتيرة الطائفية، مصاحبة لحالة استقطاب فكرى وثقافى قوية بين الإسلاميين والعلمانيين تاه بينهما تيار عام مثله جيل الثمانينيات الذى لم يتقبل بسهولة أطروحات العلمانيين شديدة الحدة تجاه الدين ومؤسساته، ولم يستسغ عنف الإسلاميين تجاه الدولة ومواقفهم المتشددة تجاه الفن والمجتمع، ورغم ذلك فقد ظل الميل العام لهذا الجيل هو للتيار الإسلامى الأقرب فى أطروحاته للمزاج المحافظ للمجتمعات التى تربوا ونشأوا فيها.
***
بداية الألفية مثلت فرصة كبيرة لجيل الثمانينيات للانفتاح على الآخر، دخل عدد كبير من أبناء هذا الجيل الجامعة أو المعاهد العليا، بدأت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) وبرامج المحادثات فى الانتشار اهتموا بتعلم اللغات، بدا لهم أن هناك عالما غير عالمهم وقيما غير قيمهم وحياة غير حياتهم، سمح القدر لبعضهم بالسفر زيارة أو استقرارا تحدوا ملكاتهم وتأكدوا أنهم على المستوى الفردى لا يقلون كفاءة عن أبناء الدول المتقدمة ولكن كيف لهم سد هذه الفجوة العميقة بين مصر وبين تلك الدول المتقدمة التى يعيشون فيها أو يزورونها؟ وحتى من لم تتح له الفرصة للسفر فقد عبر افتراضيا تلك المسافة مستغلا هذا التطور التكنولوجى والاتصالاتى ليصل لنفس الحقيقة، هذا العالم المتقدم به أناس مثلنا، نستطيع أن ننافسهم ومن حقنا أن نعيش مثلهم، ولكن كيف؟
كان منتصف العقد الأول من الألفية يحمل بداية الإجابة التى اعتقد أبناء هذا الجيل أنها الإجابة الصحيحة لتصحيح الأوضاع والتقارب من هذا التقدم والتحضر المنشود، لكن كيف وبأى تكلفة؟ هذا ما أحاول سرده فى مقال الأسبوع القادم.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر