لا أستطيع أن أصدق أن بلدا شعبه يقترب من التسعين مليونا ليس به رجل رشيد أو سيدة رشيدة. هذا غير ممكن منطقيا، أعتقد أن من يمتلكون الرشد موجودون فى كل المؤسسات والمصالح والوظائف والتخصصات ولكنهم للأسف غير ممكنين ولا مؤثرين لأن أمواج الهيستريا العاتية فاقت رءوس الجميع.
الغالبية العظمى الساحقة فى تقديرى تحب مصر، بكل ما فيها من مساوئ وسلبيات. المشكلة هنا ليست فقط فى أن مفهوم هذا الحب وطريقة التعبير عنه تختلف من شخص لآخر، ولكن لأن «مصر» لها مضامين ودلالات مختلفة عند كل شخص أو مجموعة من الأشخاص. من يتعاملون مع «مصر» على أنها كيان مسمط ليس له سوى دلالة واحدة عند كل المواطنين واهمين. مصر ليست تلك الصورة التعبيرية التى تظهر فيها كشابة عذراء جميلة تلبس رداء أخضر عليه تاج به نسر ووشاح يمثل ألوان العلم الوطنى فى أنظار عرسانها، هذه صورة شديدة الضحالة والتسطيح المخل.
مصر بالنسبة للبعض ليست أكثر من جماعات مصالح، شبكة علاقات معقدة من أطراف فى السلطة، فى المصالح الحكومية، فى شبكات المال ورجال الأعمال. مصر بالنسبة لآخرين هى مؤسسات الدولة السيادية، هى مجموعة مؤسسات يتم توراثها وتوارث مواردها وتقاليدها وثقافتها ويجب الحفاظ عليها من الاختراق من قبل الورثة غير الشرعيين. مصر بالنسبة لمجموعات ثالثة هى بمثابة نادٍ، مركز تجارى للتسوق، منفذ بحرى للاستجمام، بينما تراها فئة رابعة كسجن كبير مقيد للحريات وقامع للطموح والترقى والإبداع، وأخرى تراها ذلك المسجد أو تلك الكنيسة برجال دينها وخطبها وعظاتها وإلهِهَا الذى اصطفاها دون غيرها، بينما لفئة سادسة هى الحرية، هى الشعب، هى التمكين، هى العدل والعدالة أو هكذا يطمحون.
***
بعيدا عن تلك التصورات الفلسفية الجدلية، فعلى أرض الواقع مصر هى حاصل ذلك التفاعل بين الشعب بمختلف طوائفه وبين الأرض وبين النظام السياسى فى ظل حقب تاريخية شكلت وعيا عاما وثقافات فرعية تتمايز بها عن غيرها. ومن هنا فالحديث عن مصر لا يجب ومن غير المقبول أن يكون حقا حصريا لأصحاب الصوت الأعلى، أو الثروة الأكثر، أو السلطة الأكبر، الحق فى الحديث عن مصر وتصورات حمايتها مكفول للجميع ماداموا قد آمنوا بها، ويجب أن يتم ذلك فى إطار العدالة والقانون والإيمان بمبادئ التعددية والشفافية والمحاسبة السياسية. هذا ليس تنظيرا، هذا هو واقع كل الدول التى تعرضت لهزات كبرى أو مآسٍ وطنية ولكنها استعادت مجدها وسيادتها، وإن كنت إنسانا أو مسئولا سطحيا مغلقا ساذجا لا تقرأ التاريخ فهذه مشكلتك التى يجب أن تتحمل تبعاتها ومسئولياتها، ولا يمكن أن تفرض رؤيتك تلك على الجميع. مهما كنت صاحب قوة أو ثروة أو سطوة فمن حقنا أن نتكلم ونقاوم بكل الطرق السلمية المتاحة، ومهما كنت قويا فتلك لحظة من تاريخ بلد عظيم سيذهب الجميع وسيبقى الوطن والشعب مهما حدث.
من أجل مصر إذا يجب أن ندين الإرهاب ونقف خلف الدولة وأجهزتها ومسئوليها لمواجهة الإرهاب الأسود الذى يضرب مصر. لا مجال للتبرير الفارغ أو التأييد الأعمى لأى جماعة إرهابية كبرت أو صغرت تحت أى ظرف من الظروف. أى حديث عن الحق فى المعارضة المسلحة أو التحايل على الألفاظ والمسميات لتبرير أفعال الإجرام والعنف الذى يطول مؤسسات الدولة أو مسئوليها هو شراكة فى الإجرام لاشك، فضلا عن أنه جهل بالنتائج الوخيمة لمثل هذه الأعمال على مستقبل البلاد والعباد.
***
من أجل مصر يجب أن تكون المبادئ واحدة لا تتجزأ، فمن يدافع عن الحق فى الحياة وحقوق الإنسان يجب ألا يفرق بين إنسان وآخر، من ينتمى للمعارضة أو ينتمى للدولة، من ينتمى لحزبه وتياره أو ينتمى لخصومه الفكريين أو السياسيين. من وقع على وثيقة لمنع تنفيذ أحكام الإعدام لا يمكن أن يكون مبررا أو شامتا فى العنف والإرهاب الذى يضرب مصر، فهو إما منافق وإما ساذج ولا يعوَّل عليه فى العمل العام أو النضالى والحقوقى.
من أجل مصر يجب أن نؤكد أن الدولة وحدها هى من تملك الحق الحصرى فى استخدام العنف والعقاب، ولكن هذا كله مرهون بأن يتم فى إطار القانون، وأن يكون الأخير فى إطار الدستور وأن يكون كل ذلك فى إطار قواعد العدالة والالتزام بالحقوق المدنية والسياسية والجنائية للبشر، بعيدا عن التنكيل والعقاب الجماعى وتصفية الحسابات السياسية.
من أجل مصر يجب فورا التوقف عن عمليات القتل خارج إطار القانون واستخدام عبارات التصفية والقتل الجماعى بدعوى الثأر والانتقام، فالدول لا تثأر ولا تنتقم ولا تصفى ولا تتبع أدوات قسرية للتهجير الجماعى، الدول تعاقب وتجمح وتفرض هيبتها والتى هى فى الواقع فرض لقانونها وسيادتها على الأفراد والجماعات فى إطار الالتزام بالقانون والدستور وقواعد العدالة والأعراف الدولية.
من أجل مصر يجب التوقف عن الهيستريا الإعلامية والمجتمعية، يجب تجنب البلاغات الكيدية والمكايدات السياسية، يجب النظر إلى مصلحة مصر الشعب، مصر الأرض، مصر العدالة والسلام، وهذا لن يتأتى أبدا بنشر الأفكار العنيفة والانتقامية والشمولية.
من أجل مصر يجب ألا تسيس العدالة وألا يدفع القضاء لدور مشابه للدور الدى لعبته الداخلية قبل ٢٠١١ ودفعنا جميعا ــ ومازلنا ــ ثمنه، يجب أن نتبع مبادئ عدم تعميم الاتهامات إلا بعد التحقيقات، وعدم توحيد العقوبات على المخطئين بغض النظر عن مستوى جرمهم. فبقدر الجرم تكون العقوبة وإلا انتفى الردع فى نفوس المجرمين وانتقصت هيبة الدولة من حيث لا نحتسب.
من أجل مصر يجب وفورا تشكيل شبكات مدنية من حقوقيين وأطباء نفسيين ومتخصصى رعاية وتكافل وتقويم للتواصل مع أهالى المغدورين، ودعم ذوى المعتقلين، ومساعدة أبناء الشعب العادى على التغلب على أى مشكلات نفسية أو روحية من الممكن أن تنتابهم جراء الأحداث المفجعة التى تمر بالبلاد. ففى تجارب تاريخية مشابهة كان لهذه الشبكات دور فى منتهى الأهمية لتخفيف الآلام وتقليل الهيستريا وسد الشروخ المجتمعية.
***
من أجل مصر يجب التحاور مع السلطة مهما كانت مزايدات الزملاء أو الرفاق أو الأصدقاء، بل ومهما تعنتت السلطة فى تقبل الآراء المخالفة، يجب الضغط بكل السبل لإسماع صناع القرار خلاصات التاريخ والجغرافيا مما يحدث فى مصر، ومغبة ذلك كله على الجميع. من أجل مصر يجب الاستماتة فى حملات التوعية بأهمية قواعد القانون والعدالة فى الحفاظ على الدولة نفسها من التحلل والانهيار لا العكس. يجب أن نتحاور مع أصدقائنا المذيعين والصحفيين والمعدين بأهمية دورهم التوعوى فى إطار من الالتزام بمواثيق الشرف الإعلامية وبعيدا عن المكايدات والتهييج من أجل تحقيق مصالح ضيقة أو أنانية.
من أجل مصر يجب الاتفاق على حد أدنى من الأهداف بين القوى السياسية على اختلاف أيديولوجياتها وتوجهاتها ومواقفها. أجندة تساعد فى تحرير البيئة السياسية وتدعم التعددية والنيابة والرقابة وغيرها من القواعد الأساسية لقيام أى مجتمع من كبوته نحو طريق طويل للتقدم والتنمية، بعيدا عن المصالح الضيقة والرؤى الانتهازية لتحقيق مكاسب مادية مؤقتة.
نحن أمام ظروف تاريخية غير تقليدية أو معتادة فى ظل جبهة داخلية مقسمة ومتناحرة ومستقطبة، فضلا عن محيط إقليمى شديد التفكك أصبح مصدر تهديدات جمة. ومن هنا فدور الجميع يجب أن يكون على مستوى المخاطر والتحديات والوعى بالعواقب الوخيمة التى أصبحنا بالفعل نحصد بعضها فلماذا نصر على المضى قدما حتى النهاية حيث لا قدر الله الهلاك والفشل والانهيار التام؟
***
السلطة مسئولة بالأساس عن هيبة الدولة بمعناها القانونى، وعن السلم المجتمعى، لكن المسئولية أيضا تطول المثقفين، والفنانين، والحقوقيين، والسياسيين، وعلماء الدين ورجاله..... فماذا هم فاعلون؟