هذا هو المقال الثالث عشر الذي أكتبه في مشروع كتاب "الشخصية القبطية في الأدب المصري"، والعمل الذي يعرض له مقال اليوم عبارة عن رواية "حكايات يوسف تادرس" للروائي الكبير عادل عصمت. ولقد صدرَت هذه الرواية في طبعتها الرابعة عن دار الكتب خان عام ٢٠٢٢، وحصَلَت على جائزة نجيب محفوظ للآداب في عام ٢٠١٦. قبل هذه الرواية كان قد صدر لعادل عصمت العديد من الأعمال ما بين روايات وقصص قصيرة، كما تلتها أعمال أخرى أبرزها "المرايا" التي وصلت إلى تصفيات جائزة البوكر العالمية ولم يكملها المؤلف إلا بعد سنوات طويلة انتظارًا لاكتمال نضجه الأدبي والإنساني معًا كما قال، أما اختياري "حكايات يوسف تادرس" تحديدًا للعرض والتحليل فسببه أن الشخصية المركزية في الرواية هي شخصية مسيحية، يتيح لنا الاقتراب منها التعرّف على التطور الذي لحق بالمجتمع الطنطاوي ما بين الستينيات والتسعينيات، وكذلك التعرّف على مسار العلاقات الاجتماعية بين المسلمين والمسيحيين في مدينة طنطا التي هي مسرح الأحداث، ومسقط رأس المؤلف، والمكان الذي تدور فيه أعماله على تنوعها، وعلاقة أي مؤلف ببيئته معروفة.
• • •
يتميّز يوسف تادرس بطل الرواية بشخصية مركّبة مسكونة بصراع داخلي بين متناقضات كثيرة، وفي هذا التناقض فإن بطلنا ليس وحده لأن كل إنسان يخفي في داخله آلاف الأشخاص كما يذهب المؤلف. يوسف شخص قليل الثقة في نفسه خوّاف جدًا، وبعض هذا الخوف مرتبط بظروف ولادته لأب هو الخواجة تادرس الذي فَقَدَ ابنه من زوجته الأولى، ولأم كانت قد نذَرَت نفسها للرب فلما تزوجَت من تادرس ورُزقت بيوسف صار كل حياتها. إنها ظروف مناسبة جدًا كي يترعرع الخوف الشديد على يوسف في داخل الأب والأم معًا وكي يتسلّل هذا الخوف إلى يوسف نفسه، فإذا ما صدمته وهو في طفولته عربة نقل وقعت الواقعة: كسا الضباب نظر الأب وطقطق شعر الأم، وتلونّت عينا يوسف نفسه باللون الرمادي بعد أن كانتا خضراوين، أو هكذا تصَور هو من فرط الوجل. يخاف يوسف خوفًا يحيط به ولا ينفصل عن ملامحه وحركة يده ونبرة صوته، وفي بداية تعلقه بالرسم كان يرسم ما يخاف منه حتى يهوّن الخوف ويهدأ قليلًا، فلا يلبث الخوف يطّل من عيون القطط التي يرسمها. ومع كل هذا القدر من الخوف الذي يسكنه فإنه لا يتورَع عن خوض مغامرة نسائية تلو أخرى، أحّب سناء زميلته المسلمة مدرسّة الرسم في مدرسة البنات الإعدادية وصارت سيرتهما على كل لسان، ولنا بالطبع أن نتخيَل السيناريو المتوقّع لنهاية قصة الحب هذه. اتُهم يوسف بغواية الطالبات القاصرات، واتُهم بأنه يبشّر بالمسيحية في حصة اللغة الإنجليزية مع أنه رفض أن يدرّس الدين المسيحي باعتباره غير مؤهّل لذلك، لكن في هذا النوع من القصص لا مكان كبيرًا للعقل. ثم أنه أحب بعد ذلك زميلته المدرسّة تهاني، وكانت حبيبته هذه المرة مسيحية وفرِحَت لوجوده معها كي لا تظل المسيحية الوحيدة في المدرسة، لكنها كانت متزوجة ومع ذلك وصل حبهما إلى ذروته وعاشت معه أسبوعًا في غرفته داخل شقة مشتركة مع مجموعة أخرى من المستأجرين المسلمين المتدينين بدعوى أنها زوجته!! وتلك كذبة كان من السهل جدًا كشفها فانتهت قصة يوسف مع تهاني بمثل ما انتهت إليه قصته مع سناء. هذا التضاد بين الخوف الشديد والتهوَر الشديد في شخصية يوسف يساعد في تفسيره أن يوسف في علاقاته النسائية- وبالذات في علاقته مع سناء- كان مفعولًا به مدعوّا للمغامرة وليس مبادرًا بها، وهذا يتفّق مع كون يوسف ضعيف الثقة بنفسه، كلمة توّديه وكلمة تجيبه. حتى أنه وهو الذي أحبّ الرسم كما لم يحبّ شيئًا آخر في الحياة، انصرف عنه لفترة لأنه فهم خطأ من أحد أصدقائه أنه لا يصلح للرسم، لكن فيما بعد عندما تلقّى عبارات مشجعّة راح يرسم ويرسم وراجت لوحاته ووجد النور الذي كان يبحث عنه في نهاية الطريق. وقبل أن أترك التفصيلة الخاصة بعلاقة يوسف بالرسم، أوّد أن أبدي اندهاشي من قدرة المؤلف على تصوير هذه العلاقة بمنتهى الحرفية، بينما كان المؤلف قد صرّح في لقاء تلڤزيوني مع الإعلامية قصواء الخلالي قائلًا "كلنا ما بنعرفش نرسم"، فكيف له أن يجعلنا نعيش تقلّب المزاج الفني ليوسف ما بين رسم الوجوه والأشياء والأشياء والوجوه، وكيف له أن يجعلنا نكتشف مع يوسف روح الأشياء "روح الكراسي والمناضد والأحجار والنوافذ" ونخلص من كشفنا هذا إلى أن صمت الأشياء لا ينفي أن لها روحًا، بل كيف له أن يجعلنا نقتنع أن الأشياء تغار من بعضها البعض فإن رسم يوسف الكرسي غارت السجادة وبرّاد الشاي والأكواب، كيف يجعلنا وهو- ما بيعرفش يرسم- نفعل ذلك إن لم يكن عادل عصمت صنايعيًا من الفئة(أ)؟
• • •
تفتّح وعي يوسف تادرس خلال ستينيات القرن الماضي في بيئة صحيّة تمامًا لا تعرف التعصّب ولا تمارس التمييز، فظنّ يوسف أنه كما إن لكل إنسان أنفا وفما يخصانه فإن له أيضًا دينا يتبّعه لا أكثر ولا أقل. هنا أفتح قوسين لأقول إن هذا الذي ظنّه يوسف سبق لي أن قرأته على ألسنة أبطال كثيرين في الروايات التي عرضتُ لها من قبل في هذا المكان، ومعنى ذلك أن الشعور بالاضطهاد ليس مُعطى تلقائيًا لكنه وليد بعض الأشكال المشوهّة للتفاعلات الاجتماعية، أما الموقف من هذا الشعور: غضبًا أو انعزالًا أو تجاهلًا أو عدوانية فيختلف من بطل لآخر. اشترى الخواجة تادرس بثروته التي كوّنها من عمله في الكامب الإنجليزي بيتًا بملحقاته في أحد أزقة مدينة طنطا، وأجّر غرف البيت لعدة أسر مسلمة فكانت "الأبواب مفتوحة، يمكن أن تدخل من أي باب وتأكل في أي مكان" وكان السكان جميعًا "يعيشون في الزقاق كأسرة واحدة"، وساعد وجود التلڤزيون في بيت الخواجة تادرس ليس فقط على زيادة اللُحمة فيما بين الجيران وبعضهم البعض، لكنه ساعد أيضًا على زيادة المكانة الاجتماعية لصاحب البيت فلم يكن يوجد أي جهاز تلڤزيون آخر في الزقاق ولذلك شعر الخواجة تادرس "بأن الزقاق ملكه وأنه سيد الحتة". بطبيعة الحال لم يكن الأمر يخلو من سخافات بعض الأراذل لكن سرعان ما كان يتم الردّ عليها ووضْع حدٍ لها. فعندما حاول أحد الجيران أن يدعو تادرس للإسلام بينما لا يكّف هذا الجار عن مغازلة نساء الزقاق نهره تادرس قائلًا "صالح يا ابن النجّار إنت دجّال" فانتهر صالح ولم يعد لأفعاله تلك مرة أخرى. يوسف نفسه تعرّض في صباه لسخافات من هذا النوع، فكان قد وصله ما يقال عن إن في باحة أحد المساجد يعيش تمساح كبير يأكل المسيحيين إن هم تسللوا إلى حرَم المسجد، وبالتالي عندما كان يداعبه أحد الأصدقاء مستظرفًا ويقول "تعال صلِ معنا" كان يرد عليه باستظراف مماثل "سلّم لي على التمساح". كانت الحياة إذن تجرى على هذا النحو، ثم اعتبارًا من منتصف التسعينيات بدأت تتغيّر الأمور. انتشر الحجاب والنقاب، وتوالى الفرز الديني بين المسلمين والمسيحيين. أخذ المسيحيون يفضّلون الإقامة في بيوت يوجد بها مسيحيون ويرفض المسلمون إسكان المسيحيين في بيوتهم. وفي تلك الأجواء انتعش الخوف الكامن في نفس يوسف فبدأ يشعر بالغربة بمجرد أن يذكر اسمه كاملًا "يوسف تادرس"، وراحت تحرقه النظرات التي تفتّش في معصمه عن الصليب الأزرق إلى جانب الوريد، وكم ودّ لو صرخ فيهم بأنه مثلهم، جاء من نفس الحارات والشوارع التي جاءوا منها، ويتحدّث نفس اللغة التي يتحدثون بها، لكنه كان يكتم صراخه، هو لم يتعوّد أصلًا على الصراخ. هذا المناخ الطائفي عاشته مصر كلها- وليست مدينة طنطا استثناء من ذلك- وعندما يقول المؤلف على لسان البطل إن هذا المناخ بدأ يخيّم على طنطا في التسعينيات فإنه يبدو لي كما لو أن المدّ الطائفي تأخرّ في الوصول إلى محافظة الغربية، فنحن في القاهرة عايشناه منذ منتصف السبعينيات وبشكل أوضح مع بداية الثمانينيات وكانت الذروة في أحداث الزاوية الحمراء في يونيو ١٩٨١.
• • •
على أي حال آلت حياة يوسف تادرس إلى ما آلت إليه، وساهم حبه لزميلته سناء في تعقيد أموره فتربَص به مدرّس الألعاب الملتحي الذي كان يؤمن بألا حق ليوسف في أي شئ لأنه مسيحي فما بالك بحب شابة مسلمة؟ كانت نظرات هذا المدرّس تنطق بما في قلبه من كراهية تكاد تقول "أنت نصراني". وبدأ يوسف يشعر بتلك الأجواء التي حكت له أمه عنها في نهاية الأربعينيات مع تمدّد نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري، ثم ما لبث هذا الإحساس.. إحساس المسيحي الحامل لصليبه والمُطارَد في وطنه أن انتقل من بعد لابنه ميشيل فما أن أتمّ دراسته للسياحة حتى طار إلى أمريكا وتزوّج فيها وعاش حياة أخرى. وفي الوقت الذي كانت فيه البيئة تتغيّر من حول يوسف فإن علاقته بالدين لم تتغيّر، فلقد كان يلوذ بالدين كلما واجهته مشكلة، وعدا هذا فإنه لم يكن متدينًا رغم ما عرفناه عن تديّن أمه الشديد. هذه العلاقة الموسمية بالدين تجلّت في مواقف كثيرة، فعندما ماتت أم يوسف ابتعد يوسف قليلًا عن الإيمان وشعر بالضغينة تجاه الرب، ثم ما لبث أن استجاب لإلحاح الأب بولا عليه كي يزور الأديرة لعله يهدأ نَفسًا. وعندما ضاق يوسف بحياة لا تشبه روحه وهو يعمل مدرسًا للغة الإنجليزية في الصباح ونقّاشًا في المساء، وتزامَن ذلك مع تسلل الملل إلى علاقته بزوجته چانيت، انتسب لجمعية الكتاب المقدّس، لكن المفاجأة أن تلك الجمعية كانت تتبع طائفة مسيحية غير الطائفة التي ينتمي هو إليها، وهذا يعطينا فكرة عن درجة التصالح مع فكرة الاختلاف التي ميّزت شخصيته. وعندما تركت يوسف حبيبته سناء وسافرت هربًا من القيل والقال، ذهب إلى دير مار مينا، وفعل ما لم يكن يتصوَر أن يفعله أبدًا. وقف أمام قبر البابا كيرلس وأخرج ورقة وقلمًا وكتب "أعرف أنك صاحب معجزات، أيها الأب المعظّم، ساعدني في الخلاص من هذا القلب المعذّب، ساعدني في القرب من سناء". هذا السلوك يذكّرنا برسائل المصريين إلى ضريح الإمام الشافعي التي كتب عنها ببراعة الدكتور سيد عويس، فالثقافة المصرية واحدة، لكن الطريف فيما فعله يوسف تادرس أنه كان يطلب من البابا أن يساعده في أمر يتنافى مع عقيدته المسيحية برغبته في القرب من فتاة مسلمة. وعندما ابتعدَت تهاني التي أحبها يوسف من كل قلبه فكّر أن يذهب إلى كنيسة الطور التي لم يزرها أبدًا طيلة خدمته في تلك المنطقة، ثم تراجَع بدعوى أنه لم يعد ساذجًا وبات يدرك أن ألمه يخصّه وحده. ومع ذلك فإنه لم يبرأ مما كان يعتبره سذاجة، حتى إذا أغسقت أيامه وأُغلقت أمامه السبل كما تُغلَق لعبة الدومينو فكّر في الذهاب إلى المدى الأقصي.. فكّر في أن يسلك طريق الرهبنة فذهب للأب بولا يسأله عن مرشد وبدأ يقرأ الكتاب المقدّس بجدية فائقة، وتلك القفزة الحياتية لو أنها تمت لكانت قفزة في الهواء لأن الرهبنة لها مقدمات وهذه المقدمات لم تتوّفر ليوسف على مدار حياته، وبالتالي فما أن عاد للفرشاة والألوان والظلال وروح الأشياء حتى صرف النظر عن مسألة الرهبنة.
• • •
إن حكايات يوسف تادرس تصلح لوصفها بالتأريخ الاجتماعي لثلاثة أو أربعة عقود من عمر مصر منظورًا إليه من عدسة مدينة طنطا. وهي رواية تخلو تقريبًا من السياسة، فلا نكاد نجد إيماءة سياسية إلا في الإشارة إلى واقعة تنحّي الرئيس جمال عبد الناصر بعد النكسة، وهي واقعة غضِب لها الخواجة تادرس وهاج وماج وشرب لأول مرة في حياته ربع جن وعاد إلى المنزل يتطوّح. يلمس القارئ الخلفية الدراسية الفلسفية للمؤلف التي تنعكس على حوارات يوسف تادرس مع نفسه ومع الأشياء بحثًا عن النور الذي يشغفه دائمًا وأبدًا، ولعل من أكثر الحوارات التي أعجبتني حواره مع نفسه وهو يقف كالتائه في محطة قطار سيدي جابر مشبهًا خروجه من الزقاق الذي يسكنه في طنطا إلى مدينة الإسكندرية بزحامها وضوضائها بأنه خروج من الرحم. هذا الموقف بدا فيه يوسف كما لو أن أحذيته قد صارت واسعة عليه بعكس ما كان عليه حال البطل في رواية عادل أسعد الميري حيث دفعه تسلّط أبويه للشعور بضيق أحذيته، وتلك ملاحظة على الهامش. اللغة الرفيعة للرواية تتخللها جمل ومفردات غاية في البساطة والدلالة، كما في وصف الأيام المملة بأنها سادة كما لو كانت قهوة بدون سكر أو قطعة قماش بلا زخرف، وكما في وصف عربة النقل التي دهست يوسف بأنها العوّ هذا الوحش الذي لا وجود له إلا في الأسطورة، وكما في وصف الخوف بأنه بطانة القلب. إنها رواية مُشبعة وجاذبة فهي تحتفظ بانتباه القارئ من أول افتتاحها بـ "قلت لشجرة اللوز حدثيني عن الله فأزهرت شجرة اللوز"، وحتى ختامها بسؤال "بربك قل لي متى سيطول النور هذه البلاد؟".