لا أكشف جديدا بإقرار أن انتقال النظام السياسى فى مصر إلى أوضاع أكثر ديمقراطية هو أمر صعب للغاية، وأن أهم عقبة على هذا الطريق هى إصرار الحزب الوطنى الديمقراطى على احتكار السلطة، واستمرار انتهاكات حقوق الإنسان بدعوى وجود حالة طوارئ، ووضعه كل العراقيل أمام أى ترتيب دستورى قد يؤدى إلى انتقال سلمى للسلطة عن طريق صناديق الانتخاب.
ولكن يجب أيضا الاعتراف بأن قطاعات مهمة فى المجتمع ترى أن بقاء السلطة فى يد هذا الحزب مع غياب الديمقراطية هو أهون الضررين، وذلك فى مقابل ضرر أشد، وهو احتمال وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب، لو قدر لمصر أن تشهد انتخابات نزيهة حرة. هذه القطاعات المساندة للحزب الحاكم توجد بين رجال الأعمال، وفى أوساط الأقباط وفى الطبقة المتوسطة، وحتى بين أعداد من المثقفين.
ويعنى بقاء الإخوان المسلمين فى هذا الوضع الرمادى، بين السماح لهم بالمشاركة فى الانتخابات البرلمانية والتى يحصلون فيها، رغم كل القيود الإدارية والسياسية على حملاتهم الانتخابية، على أضعاف ما تحصل عليه كل أحزاب المعارضة مجتمعة، وبين ملاحقة قادتهم على أعلى المستويات بالقبض والتشهير، بدعوى أنهم جماعة محظورة، واستحالة تنظيم انتخابات نزيهة على أى مستوى خشية انتصارات الإخوان.. ينطبق ذلك على الانتخابات البرلمانية، كما ينطبق أيضا على انتخابات معظم النقابات المهنية والاتحادات الطلابية، بل وحتى الغرف التجارية، حيث أصبح قادة الحزب الوطنى، ومن ورائهم أو أمامهم وزارة الداخلية، يعتبرون أن استمرار نجاح الإخوان فى هذه الانتخابات هو مقدمة لسيطرتهم على مقاليد الأمور فى مصر، سلما أو من خلال أعمال عنف.
وقد يرى البعض أن ذلك وضع مؤقت، سوف يستمر هذا التضييق على الحريات المدنية والسياسية فى مصر لفترة قد تمتد أعواما، حتى ييأس الإخوان من لعبة السياسة هذه، ويقنعون بالالتزام بالدعوة، دون المخاطرة بخوض الانتخابات، وقد تتحسن الأحوال الاقتصادية، ومن ثم تجف منابع التأييد للإخوان المسلمين فى المجتمع.. وهكذا فعلى الذين يتطلعون إلى الانتقال إلى أوضاع أكثر ديمقراطية فى مصر، أن ينتظروا حتى ينجلى الخطر الذى يمثله الإخوان المسلمون، وعندها يكون هناك حديث آخر، واحتمالات أعلى للقبول بإرادة الناخبين.
الإخوان المسلمون أحد حقائق الحياة السياسية فى مصر
الواقع أنه لا يوجد ما يساند هذا التصور، فالحركات السياسية التى تستند إلى الدين قد أصبحت واقعا ثابتا فى العديد من مجتمعات العالم، وليس فى الدول النامية فحسب، وتضاعف شأنها مع سقوط الاتحاد السوفييتى، وهى موجودة فى كل الدول العربية تقريبا، إما فى إطار قانونى، كما هو الحال مثلا فى المغرب واليمن والأردن والعراق ولبنان وفلسطين، أو كتنظيمات محظورة مثلما هو الحال فى الجزائر وتونس ومصر، واكتفى هنا بالدول التى تسمح بدرجة من حرية التنظيم السياسى، ولا يبدو أن حظ هذه القوى الإسلامية التى تتبع طريق العمل السياسى لتغيير أوضاع المجتمع هو فى طريقه إلى الأفول، فتلك الدول تشترك مع مصر فى نفس الثقافة، ومن ثم فإذا كانت الحركات الإسلامية لا تتحول إلى قوى هامشية فى هذه المجتمعات، فليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن ذلك قد يحدث فى مصر.
وفضلا على ذلك فأمامنا التجربة التاريخية للإخوان المسلمين فى مصر، فهم بعد حزب الوفد أقدم الحركات السياسية الفاعلة فى المجتمع فى الوقت الحاضر، وقد تواجدوا على مسرح السياسة المصرية منذ ثمانية عقود، وقد دخلوا أو دخلت جميع الأنظمة التى حكمت مصر فى مواجهات عنيفة معهم، وانتهى الأمر باختفاء القيادات التى تصدت للإخوان المسلمين، وبقى الإخوان مصدر قلق للأنظمة التى أعقبتها.
لقد حظر الملك فاروق الإخوان المسلمين، فى سنة 1948، ولكنه اضطر لإعادتهم للحياة السياسية بعد ذلك بعامين،وحظر نظام ثورة يوليو الإخوان المسلمين مرتين فى سنة 1953، وفى سنة 1954، وهو الحظر الذى مازال باقيا، ولكن من تبقى من قيادات الإخوان خارج السجن قد اتهموا فى سنة 1965 بالتآمر لاغتيال الرئيس عبدالناصر، وأطلق الرئيس السادات الإخوان من السجون فى أوائل السبعينيات، ولكنهم برزوا فى آخر عهده كقوة معارضة رئيسية، ما دفعه إلى إلقاء القبض على العديد من قياداتهم فى تدابير سبتمبر 1981 المعروفة، والتى انتهت باغتياله بعدها بشهر فى 6 أكتوبر من نفس العام.
وحسنا فعل الرئيس حسنى مبارك فى أعقاب توليه السلطة عندما ميز بين الجماعات الإسلامية التى ترفع السلاح فى وجه الحكومة والمواطنين، والإخوان المسلمين الذين يسلكون طريق العمل السياسى، فشاركوا فى انتخابات مجلس الشعب فى عامى 1984و1987، ومرتين أخريين فى 2000 و2005 وضاعفوا من وجودهم فى ذلك المجلس، وكان يمكنهم أن يحصلوا على مزيد من المقاعد، لو كانت المرحلتان الثانية والثالثة من انتخابات 2005 قد جريتا بنفس شفافية مرحلتها الأولى.
ولكن يبدو الآن أن نظام الرئيس مبارك مصر على استبعاد الإخوان المسلمين نهائيا من اللعبة السياسية، وهو ما يعنى استمرار حكم الطوارئ، واستبعاد احتمال اللجوء إلى انتخابات حرة ونزيهة، لأن معنى الانتخابات الحرة والنزيهة أن يكون من المتاح لكل المواطنين أيا كانت انتماءاتهم السياسية خوض الانتخابات كمرشحين، وأن تعكس الانتخابات إرادة الناخبين دون تزوير، ودون إرهاب لمناصرى المعارضة.. فهل ثمة مخرج من هذا المأزق؟
نحو حزب سياسى للإخوان المسلمين
والواقع أن اعتراض قيادات الحزب الوطنى على السماح للإخوان المسلمين بوجود قانونى، كشأن غيرهم من القوى السياسية يبدو وكأنه يستند إلى تخوف من برنامجهم السياسى، والذى يجعل الدين أساسا لمشروعهم، والحقيقة أنه قد لا يوجد خلاف كبير بين الموقف من الدين بين الإخوان وقادة الحزب الوطنى.. فقادة هذا الحزب لا يترددون فى استخدام الدين لكسب تعاطف المواطنين وتبرير سياساتهم. بل وقد يظهر الإخوان أكثر تقدما من الحزب الوطنى فى بعض القضايا. الحزب الذى عدل الدستور ليحظر استخدام الدين فى العمل السياسى يرحب بمساندة شيخ الأزهر لمواقفه فى السياسة الداخلية والخارجية، وبنفس المساندة عندما تأتى من بابا الأقباط. وهذا الحزب هو الذى لا يرشح الأقباط على قوائمه الانتخابية، وحكومة نفس الحزب هى التى تتلكأ منذ أعوام طوال فى تبنى قانون موحد لأماكن العبادة يخفف من القيود الإدارية على بناء الكنائس، وهو أمر لا يجد الإخوان صعوبة فى قبوله..
وواقع الأمر أن التوتر بين الحكومة والإخوان المسلمين يعود إلى تخوف الحكومة من ظهور أى قوة سياسية مستقلة أيا كانت توجهاتها. كانت المعركة الأساسية للحزب الوطنى فى سنة 1984هى مع حزب الوفد، وليس من المعروف الآن موقف هذا الحزب من استئناف حزب العمل الاشتراكى لنشاطه. وقد حارب الحزب الوطنى حزب الغد وهو حزب له توجهات ليبرالية، ولو قدر لحزب التجمع أن يتحول إلى حزب له وجود حقيقى بين المواطنين لحاربه الحزب الوطنى الديمقراطى بنفس ضراوة حربه للإخوان. بعبارة أخرى وباختصار الخلاف بين الوطنى والإخوان هو خلاف على السلطة وليس على مشروع الإخوان السياسى.
عندما يكون الإخوان المسلمون حزبًا
ولكن ما المكاسب التى تعود على النظام السياسى المصرى إذا ما كون الإخوان المسلمون حزبا؟ يزعم كاتب هذه السطور أنه مؤهل للقيام بهذا الحساب لأنه لا يتعاطف مع فكر الإخوان لاعتقاده بأن الدين شأن شخصى، وأنه إذا كانت كل العقائد تستحق الاحترام، فإن تأسيس دولة على أساس الدين هو مشروع فاشل وخطير فى القرن الحادى والعشرين، ولا توحى التجارب التى تهتدى ظاهريا بالدين بما يدحض هذا الاعتقاد.
ومع ذلك وبحسابات الأستاذ الجامعى والمواطن الحريص على التطور الديمقراطى لوطنه، فالمكاسب عديدة، أولها رفع الحظر على مشاركة مئات الآلاف من المهنيين من أبناء وبنات الطبقة الوسطى فى مصر فى مجهود الإصلاح الوطنى، وتلك هى القطاعات التى يحظى الإخوان المسلمون بشعبية طاغية فيها، ومن ثم يمكن تطبيع الأوضاع فى النقابات المهنية الكبرى وفتح الأبواب أمام أعضائها للمشاركة مؤسسيا فى دفع بناء الوطن واستعادته لمكانته بين الدول العربية والإسلامية، وهو يزيل عقبة كبرى أمام إجراء انتخابات نزيهة فى مصر، ويسهم فى تحقيق نقلة صحيحة على طريق الديمقراطية..
بل إن وجود الإخوان كفصيل سياسى رئيسى سوف يجعلهم مسئولين عن استقرار العلاقات بين المسلمين والأقباط على أسس من الاحترام المتبادل. والإخوان بحكم قواعدهم الجماهيرية هم الأقدر والأكثر مصداقية فى الدعوة إلى الالتزام بتعاليم الإسلام الحنيف فى احترام عقائد وعبادات أهل الكتاب..وفضلا على ذلك فوجود حزب سياسى يرفع شعارات الإسلام ويتاح له العمل السياسى المشروع قد يغلق الباب أمام عودة فصائل الإسلام الراديكالى إلى رفع السلاح مرة أخرى فى وجه الحكومة والأقباط والمثقفين والمواطنين الذين لا يشاركونهم رؤيتهم لصالح الوطن والمجتمع.
ولكن ذلك لا يعفى قيادات الإخوان المسلمين من المسئولية عن كسب تلك القطاعات من المواطنين الذين يخشون وصولهم إلى السلطة.. وفى مقدمة ما يجب على الإخوان أن يولوه اعتبارا هو بعض الأفكار التى عبر عنها برنامجهم السياسى، من حظر ترشح قبطى أو امرأة لمنصب الرئيس، أو تشكيل لجنة من الفقهاء المسلمين تراجع عمل السلطة التشريعية للتأكد من اتساقها مع تعاليم الإسلام، أو وجود لجنة أخرى تضع معايير لما ينبغى أن يكون عملا أدبيا أو فنيا يتفق مع صحيح الدين. وإذا كان هذا البرنامج قد تبنى الدعوة لدولة مدنية، فعلى الإخوان المضى فى هذا الطريق إلى نهايته بقبولهم أن يكون المفهوم العالمى لحقوق الإنسان هو عنصر أساسى فى مشروعهم، فلا يوجد تناقض فى الحقيقة بين هذا المفهوم والتفسير الصحيح لتعاليم الإسلام الحنيف.
وخيرا فعل الدكتور محمد البرادعى بإعلانه تأييده لوجود حزب للإخوان المسلمين.. ولعلنا ننتهز فرصة الحراك السياسى الذى أثارته عودة البرادعى القصيرة التى آمل أن تتكرر قريبا كعودة نهائية لأرض الوطن لمناقشة القضايا الحقيقية لتحول سياسى ديمقراطى صحيح فى مصر.