من علامة تقدم أى مجتمع هو قدرته على الإبداع، وتقديم ما هو جديد، وليس التقليد الساذج لأشكال وتعبيرات قائمة، وهو ما نصفه فى اللغة الدارجة بالتقليد الأعمى. وإذا كان من المفترض أن يتيح الفضاء الرقمى مساحة تفاعل أفضل، ويسمح ببزوغ مواهب وأساليب تعبير متجددة، إلا أنه من الملاحظ أن جانبًا من التفاعل الذى يجرى عليه يقوم على تقليد الآخرين فيما يقدمون من موضوعات، وما يستخدمون من أدوات، أكثر ما يعتمد على ابتكار الجديد. الأمثلة كثيرة ومتعددة.
فى الخارج يقف شاب معه ميكروفون، وكاميرا بسيطة، يسأل المارة أسئلة تتعلق بالحب والزواج والجنس، وهى من الموضوعات التى لا توجد محاذير أو محرمات فى الحديث عنها فى المجال العام فى المجتمعات الأوروبية. يأتى شخص فى مجتمعنا، يريد أن يقلد التجربة، فيوقف فتاة أو شابًا ويطرح عليه أسئلة جنسية بأسلوب غير مباشر، ويستخدم عبارات تنضح بإيحاءات فاضحة أكثر ابتذالا مما يحدث فى الخارج، لأن الأسئلة تطرح على الشباب فى أوروبا دون مواربة أو إثارة لأنها جزء من ثقافتهم العامة، أما هنا فإن الولوع بتقليد الآخرين فى ظل وجود محرمات ثقافية ودينية على مناقشة بعض الموضوعات يدفع إلى الحديث المبتذل.
مثال آخر، تظهر سيدة برداء الناصح الأمين للفتيات قبل الزفاف، وتسعى أخريات إلى تقليدها، ويستخدمن نفس العبارات، والتعبيرات فيما يشبه النقل الحرفى، وإذا أرادت إحداهن «التجويد» فإنها توغل فى الابتذال للتفوق على الأخريات. واللافت أن غالبيتهن يستخدمن منطلقات دينية حتى يضفين على أنفسهن الشرعية، ويتمايزن عن السيدات اللاتى يتحدثن من خلفية علمية، طبية أو سيكولوجية فى هذه الموضوعات.
مثال ثالث، شخص يُقدم نفسه على أنه طبيب، لا يتحدث، لكنه يشخص بعينيه فى الكاميرا، ويطلق ما يشبه نظرات الزجر، أو يرفع أصبعه محذرا، وهو يمسك بيديه أوراقًا مدونًا عليها إرشادات طبية. بدأت هذه الحالة بطبيب شاب، أظن أنه من الأردن، ثم امتدت إلى العديد من الأطباء فى مجتمعنا الذين استهوتهم الحالة، وبعضهم يستحث المتابع أن يدعمه بــ «لايك» أو يطلب من المشاهدين «الصلاة على النبى» فى التعليقات. وإذا نظرنا إلى مجمل ما يقدمه هؤلاء سنجد أنها معلومات طبية عامة معروفة لكثيرين.
مثال رابع الصيادلة الذين تحولوا إلى مقدمى محتوى على السوشيال ميديا، يستعرضون الأدوية، ويصفون العلاج للمرضى، ولاسيما العقاقير المتعلقة بالمنشطات الجنسية والتخسيس وفقدان الوزن الزائد، وحديثهم بالتأكيد عام، لا يختلف عما هو مدون فى ورقة الإرشادات التى توضع داخل علبة الدواء، ولا يراعى الحالة الصحية لكل شخص على حدة.
تسبح الأمثلة التى ذكرتها على السوشيال ميديا، وتستخدم تقنياتها، لكنها بائسة فى مضمونها، لا تقدم جديدا، بل هى تقليد ساذج بحثا عن جمهور يتابعها بأرقام مشاهدة كبيرة. ويظل السؤال: لماذا ننشغل بالتقليد الأعمى، ولا نسعى إلى تقديم الجديد؟ لماذا يغيب الابتكار من حياتنا، بما فى ذلك عند الأشخاص الذى يعتقدون أن لديهم شيئا مختلفا يريدون تقديمه على الفضاء الرقمى؟ بداية الخيط من التعليم النمطى، الذى لا يساعد على الابتكار، والخوف من المبادرة عند الأسرة، والرغبة السريعة فى الشهرة حتى لو كانت عن طريق تقليد الآخرين، من سرقة الأبحاث والأفكار والعبارات إلى تقليد الآخرين فى المحتوى والشكل على الإنترنت. أظن أن ذلك يجيب عن سؤال مهم: لماذا دائما ننبهر بما يقدمه الآخرون فى مجتمعات متقدمة سواء فى الفن والإعلان والمضمون والشكل، ولا يصبح أمامنا سوى أن نقلدهم أو نقلد بعضنا البعض؟