المكارثية مصطلح يعبر عن الديماموجية الشعبوية الكريهة، التى تثير البارانويا والخوف من الآخر والشكوك والتخوين بين أبناء الشعب الواحد، كما تخلق جوًا شبيهًا بأجواء محاكم التفتيش التى سادت فى القرن السابع عشر.
المصطلح منسوب إلى السيناتور الأمريكى جوزيف مكارثى، الذى بدأ مسيرته السياسية فى الحزب الديمقراطى ثم تحول إلى الحزب الجمهورى ليحصل على مقعد فى مجلس الشيوخ عن ولاية ويسكونسن فى عام ١٩٤٧.
بدأت مسيرة مكارثى تشتهر، فى عام 1950، بعد أن ألقى خطابًا أعلن من خلاله أن لديه قائمة بأسماء جواسيس للاتحاد السوفييتى وشيوعيين فى دوائر الحكومة وصفوف القوات المسلحة والدوائر الأكاديمية والإعلامية منوهًا بأن صناعة السينما فى هوليوود تغلغل فيها النفوذ الشيوعى بشكل بات يهدد المجتمع الأمريكى.
تبعت هذه الخطة موجة هيستيرية من الاتهامات والمطاردات لشخصيات عدیدة شهيرة، وتعاون مع جهاز المباحث الفيدرالية الذى كان يرأسهJ. Edgar Hoover، الذى كان لا يقل فى نزقه وسيكوباتيته عن مكارثى، وطلبوا العشرات من أشهر نجوم هوليوود للشهادة فى المجلس للوشاية بزملائهم، ويتعرض من يرفض للمثول إلى العزلة فى السجن. استخدمت النخب الوشاة ليشوا بزملائهم مستخدمة أسلوب الجستابو النازى، وتحدث لاحقا عدد من نجوم هوليوود عن الوشاه، ومنهم النجم الوسيم روبرت تايلور، ووصف الممثل والمخرج العظيم أورسون ويلز زميله المخرج إيليا كازان بأنه كان جاسوسا وواشيا عن زملائه. ولعل من أكثر أعمال اللجنة فجاجة قصة كاتب السيناريو Dalton Trumbo الذى رفض المثول أمام اللجنة فعاقبوه بحذف اسمه عن فيلم Roman Holiday الشهير، ولم يعيدوا له حقه فى الفيلم الذى عرض سنة ١٩٥٣ إلا فى عام 2011 بعد وفاته بـ ١١ سنة. أدى هذا العسف إلى هجرة العديد من نجوم هوليوود من الولايات المتحدة، ولعل أشهرهم كان الفنان العظيم شارلى شابلن.
• • •
لعله من الإنصاف أن نذكر أن هذه الحملة لم تكن من صناعة جوزيف مكارثى لكنها بدأت قبل ذلك بكثير. فقد بدأ القلق الأمريكى من تغلغل الشيوعية بعد تدقف الآلاف من المهاجرين الروس، هربًا من أحداث العنف الدامية عقب الثورة البلشفية، وخوفا من تسلل عملاء الاتحاد السوفييتى الشيوعيين إلى الولايات المتحدة.
وتكرس القلق أثناء الحرب الأهلية الإسبانية خلال الفترة من ١٩٣٦ إلى ١٩٣٨ عندما هرع اليساريون والاشتراكيون للتطوع فى صفوف الجانب الجمهورى الذى حارب قوات الجنرال فرانكو الفاشية وكونوا كتيبة لينكولن، التى حاربت فى إسبانيا جنبًا إلى جنب مع ضباط سوفييتيين، وكان من بينهم عدد من الفنانين والأدباء والصحفيين لعل أشهرهم كان الأديب إرنست همينجواى، الذى حكى تجربته فى الحرب فى كتاب «لمن تقرع الأجراس».
أدى انضمام الاتحاد السوفييتى إلى الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية إلى تعاطف شعبى مع الاتحاد السوفييتى، ومن مظاهره تضاعف أعضاء الحزب الشيوعى الأمريكى من 20 ألف عضو فى عشرينيات القرن الماضى إلى أكثر من ٦٠ ألفًا فى آخر الثلاثينيات، وحتى هوليوود أنتجت فيلم يشيد بكفاح الاتحاد السوفييتى ضد النازية باسم Song of Russia، بطولة النجم روبرت تايلور الذى حققت معه لجنة مكارثى واستخدمت مشاركته فى الفيلم كورقة ضغط عليه للوشاية بزملائه.
مع تنامى القلق من التغلغل الشيوعى تأسس فى مجلس النواب لجنة النشاط المعادى لأمريكا House Un-American Activities Committee - HUAC فى سنة ١٩٣٨، وكان أول رئيس لها Martin Dies، عضو الكونجرس عن الحزب الديمقراطى الذى طالبه بالتحقيق مع أكثر من ١٥٠ شخصية ووقف نشاطهم، وبلغ من غلوه وتطرفه أن قدم مشروع إلى الكونجرس برقم 7120 H.R سنة ١٩٣٨ يقضى بترحيل ٧ ملايين مهاجر، وهو نفس ما يطالب به دونالد ترامب بعد ۷۷ سنة، وهو إشارة إلى أن ترامب ليس ظاهرة جديدة بل هو شعور كامن منذ زمن فى اللا وعى الأمريكى عابر للحاجز الحزبى قدمه أولًا سياسيًا ديمقراطيًا، ويقدمه اليوم رئيسًا جمهوريًا.
• • •
أسهم جوزيف مكارثى فى إلهاب الساحة السياسية الأمريكية، وأجج الحرب الباردة ورفع رايات الشوفينية والزينوفوبيا والعنصرية إلا أن الخطر الذى يمثله دونالد ترامب تتقزم أمامه المكارثية، فمكارثى ما كان إلا سناتور أما ترامب فهو رئيس الولايات المتحدة، وجمع حوله أخطر عنصرين من عناصر السياسة، وهما تركز رأس المال والشعبوية الدهماء، وأظهر شططًا وتطرفًا غير مسئول استفز حلفاء الولايات المتحدة قبل أعدائها، وأدى إلى ردود فعل قوية من كندا والمكسيك، ولعله قضى بحديثه عن ضم كندا وعقوبات عنصرية على الثانية على منظمة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA.
لعل تهديداته لبانما، رغم رضوخها وإعلانها الانسحاب من مبادرة الحزام والطريق الصينية، تؤثر على منظمة الدول الأمريكية OAS ويدفعها إلى التمترس خوفًا من شطط جديد يصيب أعضاءها، فضلًا عن ابتزازه حلفاء فى حلف شمال الأطلنطى لدفعهم إلى إسهامات عسكرية أكبر مقابل الحماية التى تضفيها الولايات المتحدة على أوروبا، واستفزاز مشاعر دول الحلف الأوروبية بتهديده بالاستيلاء على جزیرة جرينلاند التابعة للدنمارك (واحدة من أعضاء الحلف).
أما موقف ترامب من القضايا العربية وتصريحه بضم غزة وتحويلها إلى منتجع سياحى والضغط على مصر والأردن لقبول سكان غزة فقد أثار غضب الشعوب العربية.
لقد أشعل ترامب حربًا تجارية مع الصين وغيرها من الدول، وأسقط دعوة بلاده بأنها تحمل راية حرية التجارة، وبات ينادى بزيادة الإنفاق على التسليح لدعم قوة الولايات المتحدة العسكرية، رغم أن بلاده لیست أقوى دولة فى العالم فحسب بل إنها أقوى من العالم بأسره، وبات يقعقع قعقعة غير مسئولة بالسلاح تجاه الشرق الأوسط وتجاه إیران فى نفس الوقت الذى يعمل فيه على تقزيم القوة الناعمة الأمريكية بإغلاق أبواب هيئة المعونة الأمريكية USAID وبالانسحاب من منظمة الصحة العالمية ومن منظومة البيئة، وهو بذلك يقوض المنظومة الدولية التى تمثل الأمم المتحدة بمعاداته لهيئات مثل وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين UNRWA، وسبق للولايات المتحدة أن انسحبت من اليونسكو، وهى إحدى أذرع الأمم المتحدة مثلها مثل منظمة الصحة العالمية، ورغم أن الولايات المتحدة عضو دائم فى مجلس الأمن ما يعطيها مسئولية فى الدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة، فقد وقفت متفرجة بسلبية على مندوب إسرائيل، وهو يمزق الميثاق فى الجمعية العامة أمام ممثلى كل الدول الأعضاء. لقد نالت هذه التصريحات والتصرفات كثيرًا من هيبة الولايات المتحدة ومكانتها الأخلاقية والسياسية، وباتت تهدد استحقاقها لمقعد دائم فى مجلس الأمن كضامن للشرعية الدولية والقانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة.
• • •
إن الضرر الذى يسببه دونالد ترامب يفوق كثيرًا الضرر الذى سببه جوزيف مكارثى، ولقد كان من أهم أسباب سقوط المكارثية الحملة الإعلامية التى شنها الإعلامى الأمريكى الشهير E.D Murrow، ولعل الإعلام الأمريكى والعالمى يتنبه إلى الخطورة التى يمثلها دونالد ترامب على السلام العالمى وعلى المنظومة الدولية والشرعية الدولية فيتصدى له ويشن حملة مكثفة إن لم تؤد إلى سقوطه على الأقل تؤدی إلى تحجيمه واحتواء ضرره.