«أطلق الربيع عصافيره من الأقفاص، بديعة الألوان، زاهية الريش، تملأ الدنيا بالموسيقى العذبة، تغنى، وتطير حرة مع حمام أبيض كتلك التى تمتلئ بها سماء «دنشواى»، ولكنها لا تخاف بندقية الصيادين، فقد طردهم الشعب، وهزمهم حين أرادوا أن يعودوا».
فى صمت، وبوقار يناسب موهبته الكبيرة انسحب من عالمنا قبل أيام، صاحب السطور أعلاه، الكاتب الكبير عبدالتواب يوسف عملاق أدب الأطفال، الذى تربت أجيال على كتابه الأشهر «خيال الحقل» أو «الناطور»، وعلى الرغم من أنه كان مقررا دراسيا على تلاميذ الصف السادس الابتدائى حتى نهاية النصف الأول من سبعينيات القرن الماضى، إلا أن التأثير السلبى لعامل الإجبار الذى يرافق عادة الكتب المدرسية تلاشى أمام التشويق والإمتاع، وما تثيره القصة من خيال مبدع.
لم أحتفظ بكتاب مدرسى لأكثر من 40 عاما غير «خيال الحقل»، ولم أتردد فى شراء نسخة ثانية منه صادرة عن دار الهلال قبل 3 أعوام، فقد حفرت سطور الراحل الكبير فى ثنايا عقلى، وشقت لها نهرا عميقا فى وجدانى، وزرعت أفكارا كبيرة فى كلمات بسيطة حل حصادها بعد سنوات الطفولة، وظهرت نتائجها فى الميدان العملى.
يقول الراحل عن قصته التى يتذكرها جل أبناء جيلى: «تعرفت إلى خيال الحقل، وأنا طفل صغير، فى حقل قريتى (شنرا) مركز الفشن، وصحبته خلال رحلة طويلة فى مدارس بنى سويف ثم فى جامعة القاهرة، وظل صديقى ورفيق عمرى، أذكره دائما كلما ذكرت البلد، والأرض السمراء، والزروع الخضر، والسواعد الفتية، تفرش وطنى بالخير والنور، كان يدور بينى وبين صديقى حوار طويل، وقد تحدث إلى كثيرا ــ وأنا صغير ــ بلغة فصيحة بسيطة، وروى لى حكايات طويلة، وكبر معى، وأصبح أكثر فصاحة وقدرة على التعبير، واستطاع أن يملى على سطور هذه الرواية ذات صيف».
اختار الراحل العبقرى صديقه خيال الحقل راوية لقصة بديعة عن مجموعة من الصبية لا تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة، وكيف تحملوا مسئولية زراعة الأفدنة الخمسة التى يمتلكها العم عبدالسلام والد صديقهم صابر، بعد أن رحل الأب إلى جبهة القتال عقب هزيمة يونيو 1967 للمشاركة فى تحرير الأرض، وكيف نجحوا بتعاونهم وتنظيم وقتهم بين العمل والدراسة فى إنجاز المهمة.
وقف خيال الحقل على رأس الأفدنة الخمسة ــ التى باتت ملكا للعم عبدالسلام عقب إصدار قوانين الإصلاح الزراعى ــ شاهدا على حقبة تاريخية مرت بها مصر، وراويا لجانب من الظلم الذى وقع على الفلاح المصرى من أصحاب البزات ــ الإنجليز والبشوات والبكوات ــ قبل أن تنصفه ثورة يوليو، ليتحمل الفلاحون نصيبهم فى المعارك التى جرت عقب طرد الإنجليز، والقضاء على تسلط الإقطاع، وتأميم القناة لبناء السد العالى.
أذكر أننى قبل سنوات هاتفت صاحب هذه الموهبة، لأعترف له بمقدار التأثير الذى فعلته إبداعاته فى مسيرتى العلمية والمهنية، بعد أن قطعت شوطا لا بأس به فى خدمة صاحبة الجلالة، والرجل من فرط تواضعه يسعى جاهدا لأخذى إلى مناطق بعيدة عن مدحه والثناء عليه، على الرغم من أننى لم أكن أتحدث سوى عن جانب ضئيل مما يستحقه عبدالتواب يوسف من تقدير لكتاباته التى تجسد تعلقه بتراب هذه الأرض و«حب الخير وكراهية العيب، وحب العمل وكراهية العبث، وحب الوطن وكراهية الدخيل».. يرحمه الله.