إذا كان القرن التاسع عشر هو قرن التوسع الاستعمارى مدعوما بالثورة الصناعية وتقدم وسائل الإنتاج وزيادة حجم التبادل التجارى، فإن القرن العشرين هو عصر التنظيمات الدولية، أى عصر فاعل دولى جديد تفوق قدراته المؤسسية والمادية قدرات الكثير من الدول القومية، والأهم أن هذا العصر شهد بداية وضع حدود لسيادة الدولة القومية، مع العلم بأن الأخيرة كانت مازالت تتشكل فى العديد من القارات وخصوصا بعد الانحسار التدريجى فى ظاهرة الاستعمار الدولى، فضلا عن انهيار واحدة من آخر أقوى الإمبراطوريات العالمية ألا وهى الدولة العثمانية، ليتشكل بالتالى نظام دولى جديد غير مسبوق هيكليا ووظيفيا. غير أن الطريق لهذا التنظيم الدولى الجديد لم يكن مفروشا بالورود، ولكنه كان طريقا طويلا وصعبا احتاج إلى حربين عالميتين مدمرتين أراقت دماء الملايين كما لم ترق دماء البشرية فى العصور الحديثة من قبل!
مع بداية القرن العشرين كانت المكانة الدولية التى احتلتها بريطانيا بدأت فى التراجع التدريجى، ففى أوروبا كانت الطموحات الروسية والألمانية فضلا عن الفرنسية تناطح النفوذ البريطانى، بينما عالميا كانت هناك قوتان أخريان تنافسان النفوذ البريطانى؛ فى الشرق كان المارد اليابانى يخرج من قمقمه بشكل تدريجى مكبدا الصين وروسيا هزيمتين حربيتين فى غضون عقد واحد من الزمان (١٨٩٥ــ١٩٠٥)، ومن الغرب كانت الولايات المتحدة تتوسع أيضا فى أمريكا اللاتينية محققة تطورات غير مسبوقة فى مجالى الإنتاج الصناعى والتجارة!
يذكر المرحوم الدكتور محمد السيد سليم فى كتابه «تطور السياسة الدولية فى القرنين التاسع عشر والعشرين» الصادر عن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة فى ٢٠٠٢، بعض الإحصاءات ذات الدلالة فى هذا الصدد، فعلى سبيل المثال بينما كان نصيب بريطانيا من الإنتاج الصناعى عالميا ما يقرب من ٣٢٪ فى مقابل ٢٣٪ للولايات المتحدة و٢٣٪ فقط لألمانيا عام ١٨٧٠، فإن هذا الوضع تبدل فى غضون عقود قليلة، حيث خسرت بريطانيا هذه السيطرة ليهوى نصيبها من الإنتاج الصناعى العالمى إلى ١٤٪ فقط عام ١٩١٣ مقابل ٣٦٪ للولايات المتحدة و١٦٪ لألمانيا!
صحيح أن هذا التراجع لم يكن يعنى نهاية عصر النفوذ البريطانى العالمى لكنه كان مؤشرا على دخول السياسة الدولية عصر الأقطاب المتعددة (يصفه بعض أساتذة العلاقات الدولية بعصر القطبية الثنائية)، كما كان يعنى ذلك بأن السياسة الدولية أصبحت عالمية وليست أوروبية فقط كما كان الحال فى القرون السابقة!
•••
فى تلك الفترة ازداد عدد المعاهدات الثنائية والثلاثية الدولية، فكان الاتفاق الفرنسى البريطانى (تعهدات أمنية متبادلة) عام ١٩٠٢، وفى نفس العام كان الحلف البريطانى ــ اليابانى، والوفاق الودى البريطانى ــ الفرنسى عام ١٩٠٤، وآخر بين فرنسا وروسيا عام ١٩٠٥ ورابع بين روسيا وبريطانيا عام ١٩٠٧، واتفاقية خامسة بين ألمانيا وفرنسا عام ١٩٠٩، وسادسة بين ألمانيا وروسيا عام ١٩١٠، وهكذا تعددت الأحلاف وتعددت الأطراف الملتزمة تجاه بعضها البعض بالتزامات أمنية ودفاعية وليس من الصعب عند قراءة تفاصيل هذه المعاهدات ملاحظة أن بعض هذه التعهدات كانت تتناقض مع بعضها البعض ومن ثم كانت السياسة الدولية تدار بسياسة التعهدات الأمنية المتضادة والمتناقضة قصيرة الأمد حيث لم يكن الهدف هو عقد أحلاف دفاعية مستقرة بالمعنى التقليدى بقدر ما كانت تسعى كل قوة من هذه القوى الدولية تحقيق مصالحها الذاتية للسيطرة والتوسع من خلال المراوغات الدولية.
انتهت هذه المراوغات بوجود حلفين كبيرين؛ الأول هو ما أطلق عليه «الوفاق الثلاثى» والذى تشكل من بريطانيا وفرنسا وروسيا، فى مقابل «الحلف الثلاثى» الذى ضم ألمانيا، النمسا والمجر، وإيطاليا قبل أن تنضم له لاحقا الدولة العثمانية. كان هذا ما يسميه بعض أساتذة السياسة الدولية «المعضلة الأمنية» أى أن إدراك قوى دولية أن أمنها مهدد لا يدفعها إلى تخفيض المنافسة الدولية أو البحث عن سبل الاستقرار بل على العكس يدفعها نحو المزيد من التسلح وهو ما يدفع الأطراف الأخرى المتنافسة إلى الفعل ذاته أى الدخول فى سباق تسلح بدافع الردع ولكنه يتحول فى النهاية إلى دفع الجميع إلى حافة المواجهات الحربية!
•••
كان هذا بالضبط ما حدث فى أوروبا حيث دفع ارتفاع التهديدات الأمنية إلى زيادة وتيرة سباقات التسلح فى أوروبا وخصوصا التسلح البحرى بين الأسطولين البريطانى من ناحية والألمانى من ناحية أخرى، فضلا عن سباق تسلح برى بين ألمانيا والنمسا والمجر من ناحية وروسيا من ناحية أخرى وهو ما كان الخطوة الأخيرة قبل اندلاع واحدة من أقوى حروب البشرية المعاصرة.
وأمام سباقات التسلح هذه لم تتوقف محاولة نزع فتيلها عبر بعض المعاهدات والتنظيمات ذات الطبيعة الدولية. فقد سعى القيصر الروسى نيقولا الثانى إلى الحد من سباقات التسلح هذه عبر الدعوة إلى ما عرف بمؤتمرات السلام فى لاهاى، حيث عقد المؤتمر الأول عام ١٨٩٩ وحضره ٢٦ دولة، بينما عقد المؤتمر الثانى فى ١٩٠٧ بحضور ٤٤ دولة ومن بينها دول من أمريكا اللاتينية كأول مشاركة غير أوروبية فى التنظيمات الدولية.
أسفر المؤتمران عن مجموعة من الاتفاقات المتعلقة بتنظيم أمور الحرب والسلم وتسوية المنازعات الدولية، ولعل الاتفاق فى مؤتمر لاهاى الثانى على إنشاء «المحكمة الدائمة للتحكيم» هو النتيجة الأبرز لهذه المؤتمرات حيث تم الاتفاق على تشكيل هيئة للمحكمين الدوليين الذين تحال إليهم المنازعات بين الدول بهدف الحكم فيها، حيث تم الاتفاق على أن يكون لكل دولة موقعة على الاتفاقية اختيار أربعة قضاة لعضوية هذه المحكمة، وفى حالة إذا ما اتفقت دولتان متنازعتان على اللجوء لهذه المحكمة، تختار كل دولة قاضيين من هذه الهيئة بينما يجتمع القضاة الأربعة المختارون لاختيار قاض خامس لرئاسة هيئة المحكمة التى ستنظر فى النزاع. وعلى الرغم من أن هذه المحكمة لم يكن لها مقر ولا تنظيم مستقر وعلى الرغم من أن عملية اللجوء لها اختيارية للدول المتنازعة وليست إجبارية فلم نكن أمام قضاء دولى بالمعنى الحديث، ولكنها كانت البداية الحقيقية لوضع ترتيبات دولية للتقاضى الدولى وتشكيل أسس ما أصبح يعرف بالقانون الدولى.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر