كما شرحت فى مقالات سابقة، فإن أهم الانتقادات التى وجهت إلى تجربة الحداثة هى أنها كانت غربية بالأساس، ليس فقط بمعنى أنها بدأت فى الغرب ولكن بمعنى أن الغرب بقيمه وعاداته وظروفه احتكر معانى الحداثة وشروط اللحاق بها.
للتبسيط، يمكن تخيل الحداثة الغربية على أنها عملية ذات ثلاثة مكونات رئيسية، المكون الأول هو مكون «مادى» متمثل فى اعتماد النظام الرأسمالى كمحرك لعجلتى الإنتاج والتجارة، أما المكون الثانى فهو مكون «عملياتى ــ مؤسساتى» متمثل فى اعتماد الديمقراطية الليبرالية كمحرك لنظام الحكم والتفاعلات الاجتماعية والسياسية فى المجتمع الغربى، وأخيرا يأتى المكون الثالث وهو مكون «ثقافى» يعتمد بالأساس على مبادئ العلمانية والحرية والفردانية كبديل للجماعية فى تنظيم شئون الأفراد. وعلى الرغم من أن الدول غير الغربية التى التحقت بالحداثة والتقدم قد اعتمدت النسخة الغربية فى بداية عملية التحديث فإنها سرعان ما قامت باتباع نسختها الخاصة من الحداثة تواؤما مع ثقافتها وعاداتها وظروفها الاجتماعية والثقافية.
وعلى الرغم من أنه من الصعب علميا وضع نموذج توضيحى شارح للحداثة يجمع بين كل الدول غير الغربية فإنه يمكن وضع أبرز ملامح عملية الحداثة فى هذه الدول وتحديدا فى آسيا وشرق أوروبا وبعض الدول فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية. وتمثلت هذه الملامح بالأساس فى وضع مكونات مختلفة نسبيا لعملية الحداثة الغربية وذلك على النحو التالى:
أولا المكون المادى: حيث يلاحظ هنا أن العديد من الدول غير الغربية التى لحقت بالحداثة لم تعتمد الرأسمالية على النمط الغربى ولم تؤمن باقتصاد السوق بفرضية أدم سميث ــ اليد الخفية التى تتمكن من ضبط الأسعار وعلاج أى مشاكل فى السوق دون تدخل الدولة. هناك دول اعتمدت النظام الشيوعى ــ الاشتراكى مثل الصين والاتحاد السوفيتى والهند وبعض دول أمريكا اللاتينية، وهناك دول اعتمدت نموذج «الدولة التنموية» القائم على اعتماد نظام رأسمالى مسئول اجتماعيا تشرف الدولة على توجيهه وتنفيذه، ولعل النماذج المتبعة فى دول مثل سنغافورة وماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية هى الأمثلة الأبرز فى هذا الإطار حيث قامت الدولة فى هذه الدولة بالسماح للسوق ورأس المال الخاص بالوجود لكنها فى الوقت نفسه رفضت الانصياع للمنطق الغربى القائل بانسحاب الدولة التام من السوق واكتفائها بدور الشرطى، فقامت الدولة فى هذه النماذج بوضع خطط التنمية وشروط الخصخصة كما أنها حافظت على مساحة تدخلها لإصلاح أى خلل قد يشهده السوق متهمة الدول الغربية باتباع سياسات تميزية تجاه الدول الأقل تقدما عن طريق اتباع سياسات تدعم حرية التجارة دوليا بينما تتبع سياسات «ماكينزية» أى تدخلية لحماية أسواقها الداخلية.
***
ثانيا المكون العملياتى ــ المؤسساتى: يلاحظ أيضا أن الدول غير الغربية قد اعتمدت نسخا معدلة للديمقراطية الغربية (الليبرالية)، فبينما أبقت عليها دول مثلا اليابان، فإن دولة مثل الهند اتبعت نموذج الديمقراطية النيابية أى القائمة على التمثيل النيابى والتعددية الحزبية وغير المقيدة بالقيم العلمانية، ولكن دولا مثل الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة اتبعت نظما سلطوية اعتمدت على الحزب الواحد أو القائد الواحد أو كليهما مع وجود حد أدنى من قواعد الحكم الرشيد وتحديدا تمكين الحكم المحلى والمحاسبة ومكافحة الفساد وفى بعض الحالات كان هناك سماح بنسخة محدودة من التعددية والمنافسة الحزبية. وهو ما يعنى أنه بينما لم تكن الديمقراطية بمعناها الغربى شرطا للتحديث والتنمية، فإن الأخيرة لم تكن ممكنة بدون حد أدنى من التعددية والتمثيل والمحاسبة، بل إن الحالة الصينية قد شهدت وضع قواعد صارمة للحد من سلطة الرئيس عن طريق وضع مادة دستورية تمنع رئيس الجمهورية من الترشح للرئاسة لأكثر من مدتين بإجمال عشر سنوات كحد أقصى للوجود فى السلطة!
ثالثا المكون الثقافى: كذلك فإن النمط العلمانى للحداثة الغربية والمتمثل فى استبعاد الدين من الحياة العامة والسياسية لم يكن النموذج الوحيد للحداثة فى الحالات غير الغربية، فباستثناء دول محدودة للغاية مثل الصين والاتحاد السوفيتى، فقد كان الدين حاضرا فى التجارب التحديثية فى كوريا الجنوبية وماليزيا والهند والبرازيل والأرجنتين وغيرها من الدول الآخذة فى النمو والتقدم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على الأقل. حضور الدين كان لازما فى الدول سالفة الذكر لأن هذا جزء من هوية هذه الشعوب، فلم يكن ممكننا بأى حال أن يتم عزل الدين تماما عن الحياة السياسية والعامة لأن هذا جزء من ثقافة الناس، بل وحتى دولة مثل اليابان والتى لم يحضر الدين فيها كثيرا خلال عملية التحديث، فقد كان هناك حرصا من الدولة والمجتمع والمثقفين على المواءمة بين التقاليد وبين التحديث وكان جزء كبير من الجدل العام خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية منصبا حول ثنائية التحديث والتقاليد والتى أحسب أن النموذج الآسيوى للتنمية كان الأنجح على الإطلاق فى التوفيق بينهما.
***
لم يعد السؤال هل يجب اللحاق بركب الحداثة أم لا؟، لأنه لا خيارات ولا يمكن أن نسير عكس التاريخ، لكن السؤال هو دائما كيف يمكن اللحاق بها؟ وماهى تفاصيل هذا اللحاق؟ نحن فى مصر والعالم العربى مستخدمون لمنتجات الحداثة ولكن بشكل مشوه، لدينا رأسمالية لكنها غير شفافة ولا عادلة لأنها رأسمالية المحاسيب الذين يملكون وحدهم الحق فى استخدام الموارد وتوزيعها وفقا لقوانينهم، لدينا أحزاب وبرلمانات وانتخابات ونقابات ومنظمات مجتمع مدنى لكنها مقيدة وممنوعة من الحركة ومعظمها مؤمم أو مضطهد، لدينا حركات ثقافية وفنية ولكن معظمها يعانى من قلة الموارد أو توغل السلطة أو غياب المضمون، لدينا مثقفون ومنظّرون وقادة رأى وفكر، ولكن عددا كبيرا منهم إما غارق فى محاولة فاشلة لاستنساخ مشوه لنموذج الحداثة الغربى دون مراعاة للأبعاد الثقافية والاجتماعية المحلية والإقليمية، أو آخرون غارقون فى الماضى السحيق ويستمدون شرعيتهم وشعبيتهم من معاداة أى محاولة للتقدم والتحديث! لدينا مؤسسات دينية لا هى التى طالت الاستقلال والتجديد لخطابات ومفاهيم عفا عليها الزمن، ولا هى التى انحازت للإنسان وعملت على دعمه ضد ما يتعرض له من ظلم وتمييز، نحن باختصار فى منطقة هى الأكثر تأخرا فى اللحاق بالتطورات المادية والثقافية والاجتماعية التى طالت العالم الغربى وغير الغربى، لكن هل هناك طريق لمستقبل أكثر تطورا وحداثة؟
كما هو الحال فى معظم تجارب الحداثة شرقا وغربا، فإن الأمر مرهون بتطورات سياسية وثقافية واجتماعية موازية. البنى السياسية لمصر والدول العربية هى أكبر حائل أمام التقدم والتطور العربى، البنية السياسية المرسومة على مقاس الزعيم أو الملك أو السلطان لا يمكن أن تسمح بتحديثات ثقافية واجتماعية وسياسية لأن ما يهمها دائما هو الحفاظ على الوضع القائم، البنى الاجتماعية القائمة على زعماء القبائل والعشائر والدول داخل الدول لا يمكن أن تسمح بإعادة هيكلة للمجتمع بشكل يسمح بإزاحتها عن مقعد القيادة والسيطرة، وأخيرا فإن البنى الثقافية المعتمدة على الجهلاء والمدلسين والمدعين لا يمكن أن تنتج علما ولا عقلا ولا روحا حداثية نقدية، بل ستعمل دائما على تجهيل الشعوب للسيطرة عليها!
المستقبل الحداثى ممكن ولكن بشروط غير متوفرة بالمرة فى محيطنا المصرى والعربى وفى ظنى أن المنطقة ستدخل فى ظلام دامس وحقبة أكثر تخلفا خلال العقود الثلاثة القادمة قبل أن تحدث موجة تغيير جديدة تفتح بارقة أمل للنهضة والحداثة. هذا ليس حديث تشاؤم وتفاؤل بل هو الواقع الذى يفرض علينا كباحثين وطالبين للعلم والمعرفة أن نقوله بوضوح بعيدا عن التبشيرات الكاذبة!