مساء الثلاثاء الماضى، كنا فى طريقنا للأوبرا، لحضور عرض فرقة الرقص المسرحى الحديث «مولانا» عن رواية للصديق العزيز إبراهيم عيسى، حين أرسلت صديقة لزوجتى رسالة،تخبرها فيها أن الألتراس يحاصرون النادى الأهلى، وأن اشتباكات عنيفة تدور بينهم وبين الأمن، وأن سحابات من قنابل الغاز تغطى المكان، وأرسلت الرسالة ذاتها إلى أخريات كن فى طريقهن إلى فرع النادى بمدينة نصر فعدن أدراجهن.
والحقيقة أنه لم يكن هناك ألتراس ولا أمن ولا اشتباكات، لا فى الجزيرة ولا فى مدينة نصر.
فى صباح اليوم التالى، اتصل بى صديقى الطبيب «الإخوانى»، تحدث معى فى البداية ــ كالعادة ــ عن أمور عادية، ثم عرج على «مؤامرة» 30 يونيو، التى «خطط لها البرادعى وهيكل وشفيق فى اجتماع سرى بدولة الإمارات»، وكى يوثق ما يقول، قال إن الكاتبين، البريطانى روبرت فيسك والأمريكى نعوم تشومسكى، ذكرا تفاصيل الخطة فى مقالين لهما، فلما قلت له إننى لم أقرأ شيئا من هذا رغم حرصى على المتابعة، قال لى إنه ينقل لى ما قرأه على بعض المواقع؟.
هذه عينة من بعض ما ينشر على الفضاء الإلكترونى باعتباره أخبارا، يتناقلها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعى، وفى كثير من الأحيان، فإنهم يضيفون إليها ويعلقون عليها، وقد يجنح بعضهم إلى نسبتها لشخصيات مرموقة لإكسابها مصداقية أكبر، كما فعل صديقى الطبيب.
بدرجة ما، فإن هذه البضاعة تمثل «صحافة بديلة» لصحافة ورقية فى طريقها للانقراض خلال عقدين أو ثلاثة، حسب تقديرات خبراء عديدين، ولعلك تلاحظ الدور المتزايد للمدونات وفيس بوك وتويتر ويوتيوب، ويمكن أن تضيف إليها طبعا برامج التوك شو، التى بات نجومها أكثر شهرة وأعلى أجرا من نجوم السينما.
لا أنوى التقليل من شأن هذه الوسائط الجديدة، التى كان انحسار «صحافة الجودة» وغياب الشفافية وحجب المعلومات أحد أسباب ذيوعها، وهو ما يفسر لجوء كثيرين من مصادر الأخبار إليها، بتغريدة يعلن فيها رأى فى مسألة أو يحدد موقفا من قضية، بل أننا عرفنا باستقالة بعض الوزراء من مواقعهم الإلكترونية، قبل أن يناقشوا ذلك مع الحكومة ذاتها.
أنبه فقط إلى مخاطر الاعتماد عليها باعتبارها أخبارا موثقة، خصوصا أن المتصارعين على الساحة السياسية، باتوا يستخدمونها لتحقيق أغراضهم، وبات لديهم فرق إلكترونية قادرة على «الكذب المبهر» بالصوت والصورة.
طبعا صحافتنا الورقية ترتكب جرائم مماثلة كل يوم، حين تفرط فى قواعد المهنة، وتخلط الخبر بالرأى والمعلومة بوجهة النظر، وحين تمضى لاهثة وراء ما يريده الناس لا ما يحتاجونه، وحين تبقى فى خدمة ملاكها لا الحقيقة.
لا أجنح إلى مثالية لن تتحقق على الأرض، وأعرف أن الكذب صناعة رائجة، تمارسها الحكومات والجماعات والأفراد فى كل مكان فى العالم (تذكروا أن غزو العراق قام على كذبة أطلقتها إدارة بوش بامتلاك صدام أسلحة نووية، ثم اكتشفنا بعد تفتيت العراق وتفكيك جيشه وقتل عشرات الآلاف من أبنائه، أن الأمر كله محض افتراء).
فقط أحذر من اتساع مساحة صحافة بديلة لا تلتزم بأى قواعد مهنية أو وطنية، وأنبه إلى مخاطر تغلغلها التى يتيحها تراجع «صحافة الخبر» لأسباب اقتصادية أساسا، فضلا عن غياب مواثيق شرف تفتح آفاقا أرحب لإتاحة المعلومات، وتحاسب على جرائم ترتكب كل يوم فى حق المهنة والمنتسبين إليها، وتحاصر الكذب والإشاعات بالحقائق والأخبار الصحيحة.