يستمر التصعيد المتبادل بلا هوادة فى الأزمة الأوكرانية بعد مضى أسابيع على اندلاعها. حيث أكد الرئيس الأوكرانى، فولوديمير زيلينسكى، يوم 3 مارس وجود 16 ألف مقاتل أجنبى، يقاتلون إلى جانب القوات الأوكرانية. وجاء الرد الروسى يوم 11 مارس بعد موافقة الرئيس بوتين على اقتراح تقدم به وزير الدفاع الروسى، سيرغى شويجو، أثناء اجتماع مجلس الأمن الروسى، باستقبال 16 ألف مقاتل من الشرق الأوسط، أعربوا عن استعدادهم للسفر إلى منطقتَى دونيتسك ولوغانسك للقتال إلى جانب القوات الروسية. وقال بوتين مخاطبا شويجو: إذا رأيتم أن هناك أشخاصا يرغبون طوعا بدعم الانفصاليين الموالين لروسيا فى شرق أوكرانيا، فعليكم مساعدتهم على الانتقال إلى مناطق القتال. كما وافق الرئيس بوتين فى نفس الاجتماع على منح قوات الانفصاليين فى الجمهوريتين معدات عسكرية أوكرانية، استولت عليها القوات الروسية أثناء العمليات، ومنها صواريخ جافلن المضادة للدبابات، وصواريخ ستينجر المضادة للطائرات. وفى نفس السياق، لم تسفر المفاوضات المباشرة بين الجانبين الروسى والأوكرانى عن تقدم إلا فى الشكل، حيث انتقلت لمستوى وزراء خارجية البلدين، بعد اجتماعهما فى تركيا بحضور وزير الخارجية التركى، بدون أن تسفر عن نتائج ملموسة.
وعلى الجبهة السيبرانية للمواجهة، أصدرت السفارة الروسية فى واشنطن بيانا اتهمت فيه شركة «ميتا» المالكة لموقع الفيسبوك، وتطبيقات الانستجرام، والواتس آب، بالضلوع فى هجوم معلوماتى ضدها. وقالت السفارة إن الشركة خففت من القيود التى تفرضها على المنشورات التى تحرض على العنف، وتشوه صورة الجيش الروسى، وتحث على الكراهية والعداء. مما يتسبب فى تضليل الرأى العام، ونقل صورة غير واقعية عن الجيش الروسى، تسهل من عمليات الانتقام، وتأجج من العنف. ويستحضر هذا البيان من الذاكرة شهادة فرانسيس هوجن، الموظفة السابقة فى شركة فيسبوك، والتى شهدت العام الماضى فى جلسة استماع بالكونجرس الأمريكى على أن منصات الشركة، لاسيما الفيسبوك، تحتوى على لوغاريتمات تسلط الضوء على المنشورات التى تؤجج العنف. كما لحقت بالفيسبوك اتهامات من نفس النوع، بعد عملية اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكى فى يناير 2021، واتهمت الشركة بالمساهمة فى صنع حالة الاستقطاب فى الولايات المتحدة. والآن أغلقت روسيا موقع الفيسبوك للحد من آثاره السلبية داخل المجتمع الروسى، لكن مازالت الصورة النمطية التى يصنعها الفيسبوك فى المجتمعات الغربية تساهم فى تشويه صورة الجيش الروسى. وقد تساهم أيضا فى زيادة عدد المقاتلين الأجانب فى أوكرانيا.
• • •
دخلت جبهة أخرى فى خط المواجهة وهى جبهة أسلحة الدمار الشامل، ولكن بطريقة لم تكن فى الحسبان. فمن ناحية كان من المتوقع سيطرة روسيا على المفاعلات النووية الأوكرانية، تشيرنوبيل فى الشمال، وزابوروجيا فى الجنوب. فلم يكن من المتصور ترك هذه المحطات بدون تأمين شامل، خاصة أن تأثيرهما مباشر على روسيا، فهى الأقرب من حيث المسافة. وكان أيضا من المتوقع الإقدام على استعمال تسريب كيماوى واستعماله فى كيل الاتهام للطرف الآخر، على غرار ما حدث فى سوريا سابقا. لكن غير المتوقع، هو ما أثرته روسيا حول المختبرات البيولوجية فى أوكرانيا، وطلبت بسببه عقد اجتماع عاجل لمجس الأمن الدولى. وفى الجلسة، أكد المندوب الروسى الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلى بينيزيا، أن روسيا تمتلك أدلة على وجود شبكة من 30 مركزا بيولوجيا فى أوكرانيا فيها مواد سامة وخطيرة. وقال أجريت اختبارات بيولوجية فى أوكرانيا باستخدام الطيور المهاجرة بهدف نقل الأمراض للبشر. وأكد أن نتائج هذه التجارب ترسل إلى الولايات المتحدة. بدورها نفت الولايات المتحدة هذه المزاعم ووصفتها بأنها سخيفة، ولمحت إلى أن موسكو ربما تكون تمهد لاستخدام أسلحة كيمياوية أو بيولوجية. وجاء فى بعض كلمات المتحدثين بمجلس الأمن اتهاما إلى روسيا بالترويج لنظرية المؤامرة! وبدورها دعت منظمة الصحة العالمية أوكرانيا لتدمير مسببات الأمراض الخطرة فى مختبراتها، وهو طلب يعزز من الادعاءات الروسية. لاحظ أن روسيا اتهمت الولايات المتحدة عام 2008 باستعمال أراضى جورجيا لإطلاق أنواعا من الذباب تغير الشريط الوراثى للنباتات، وكاد الأمر يتحول لكارثة على المجال الزراعى الروسى.
• • •
وفتحت الأزمة جبهة أخرى، فالعديد من الهيئات الرياضية الأوروبية والدولية قررت وضع قيود على مشاركة الرياضيين الروس فى كثير من المنافسات الرياضية المقبلة. ويعتبر أشهر مثال على ذلك حرمان المنتخب الروسى من خوض منافسات ملحق التصفيات الأوروبية المؤهلة لكأس العالم 2022 فى قطر. ثم انهالت العقوبات على رجال الأعمال الروس المستثمرين فى مجال الرياضة ومنهم رومان ابراميتش مالك نادى تشيلسى، والذى عرضه للبيع وكاد يتم الصفقة، فإذا بالحكومة البريطانية تفصل تشريعا يمنعه من البيع، وتجمد أصوله، ولكن لا تمنع النادى من خوض المنافسات المحلية والأوروبية. هذه العقوبات الصارمة التى تنال من الشعب الروسى ومن رجال الأعمال الروس، ولا تفرق بين الشعب وبين الحكومة، قد تؤتى بنتائج غير متصورة! ولنأخذ إيران كمثال. فلقد تعرضت لعقوبات هائلة على مدى سنوات طويلة. وبالرغم من انهيار الريال الإيرانى عبر السنوات، فإن إيران لم تعزل. بل تمدد نفوذها، وزاد خطرها، وفرضت نفسها على الإقليم، وعلى المجتمع الدولى. والآن تعود مجددا لتفاوض على اتفاق نووى ثانٍ، بدون استعجال، بعد أن نكصت الولايات المتحدة كالعادة من الاتفاق الأول. فهل تؤثر العقوبات على روسيا بأكثر مما أثرت على إيران؟ أغلب الظن أن نتيجة العقوبات على روسيا ستفوق التجربة الإيرانية. بمعنى آخر، إذا كانت إيران صمدت أمام الغرب واستطاعت موازنة العقوبات الغربية، وزاد نموها فى ظل العقوبات، فما الذى ينقص روسيا لعمل نفس الشىء وزيادة.
• • •
كل هذه الجبهات تصب فى مكتب الرئيس بوتين بالكرملين وعليه إدارة هذه المعركة التى بدأها على أصعدة متنوعة. ولعل ذلك ما دفع بعض الباحثين الألمان فى مجال علم النفس لإرسال رسالة وقع عليها 40 باحثا إلى الرئيس بوتين عن عواقب الحرب بالنسبة لمن يبدأ الحرب. وركزت الرسالة على الآثار السلبية عليه شخصيا، ففى نهاية المطاف يصاب المسئولون عن اندلاع الحرب بالعزلة والتهديد الجسدى. كما تنعكس الحرب بالسلب على المواطنين أنفسهم، حيث يشعرون بوطأة العقوبات الاقتصادية التى يرونها ظالمة، ويشعرون أيضا بالعزلة الوطنية. ومن ثم يصنع ذلك حافزا لديهم للمقاومة والاحتجاج والثورات ضد مؤسسات الدولة التى دفعتهم للحرب. بمعنى آخر، الرسالة التى يريدون توصيلها إلى الرئيس بوتين ألا يصنع لنفسه فقاعة من المؤيدين، لأن الحقائق على الأرض ستكشف كذبهم، وتؤدى فى النهاية إلى إدراك الناس لمن المسئول عن معاناتهم بسبب الحرب. وختموا الرسالة بنصيحة الرئيس بالتفكير جيدا فى مئال الحرب بالنسبة للشعب الروسى وبالنسبة له شخصيا. وكأن الرئيس بوتين مقدم على الانتحار القومى عبر مغامرة غير محسوبة.