لا يوجد تعريف علمى محدد على الأقل فى حدود اطلاعى لمصطلح الأجهزة السيادية، فهل هى الأجهزة الأمنية أم المخابراتية أم أجهزة المعلومات الملحقة بالمؤسسات العسكرية.. إلخ؟، لكن ما تم الاتفاق عليه عرفا فى مصر، أن الأجهزة السيادية هى تلك الأجهزة المعنية بجمع وتحليل المعلومات لحماية الوطن وأمنه القومى، وهى بهذا التعريف البسيط تؤدى إذن دورا وطنيا شريفا، لأن هدفها بالأساس هو حماية مصالح الوطن ولفت نظر صناع القرار لما يتعرض له هذا الوطن من مخاطر أو تهديدات تساعد الأخير فى حسن اتخاذ القرار.
لا تسير الأمور قطعا بهذه البساطة، فمهمة تجميع المعلومات وتحليلها فى العالم أجمع، تتطلب قدرا من التخابر وكثيرا من السرية ومزيدا من الاستثناءات، ولأن طبيعة عمل رجال هذه الأجهزة وعقيدتهم هى «الشك» كشعور احترازى لابد من تنميته لدرء المخاطر المحتملة وللاستشعار عن بعد بأى تهديد، فيصبح المواطنون والمؤسسات كل عرضة أن يكونوا أهدافا محتملين لعمل هذه الأجهزة وما يعنيه ذلك من احتمال اختراق خصوصيتهم والتضييق عليهم بل وحتى تهديدهم أو التفاوض معهم حتى يتم التأكد من إن كانت هذه الشكوك فى محلها أم لا. لهذا السبب تحديدا أصبحت المهمة الأساسية للدول والمجتمعات الديمقراطية هو الدفع باتجاه التوازن بين إعطاء هذه الأجهزة السلطة والحماية اللازمة للعمل، وبين وضع ضوابط قانونية ومؤسسية لضبط أدائها بما لا ينتج عنه انتهاكات لحقوق وحريات المواطنين المكفولة عادة فى الدستور.
•••
رغم هذه الجهود الدستورية والقانونية، إلا أن الأمور لا تسير على ما يرام، إذ إنه من حينا لآخر تحدث انتهاكات وخروقات هنا وهناك وتتحجج الدولة عادة بحالات الخطر التى يهددها كمبرر ومسوغ لهذه الانتهاكات. حدث هذا فى أعتى الدول ديمقراطية، كالولايات المتحدة على خلفية تفجيرات سبتمبر ٢٠٠١ سببت جدلا عميقا داخل هذه المجتمعات وخاصة بعدما تبنت المؤسسات التشريعية فى هذه الدول مشاريع قوانين استثنائية لانتهاك الخصوصية مع مجموعة معايير شكلية وعامة لم تمنع انتقادات واسعة لها ولأهدافها كانت ولاتزال محلا للجدل هنا وهناك.
بالانتقال إلى الحالات العربية، فنجد أن هذه الأجهزة السيادية لعبت أدوارا مهمة فى مرحلة ما بعد الاستعمار، فمعظم الدول العربية لجأت إلى بناء وتطوير أجهزة استخباراتية وأمنية قوية لتعضيد الحكم والسيطرة الداخلية من ناحية ولمواجهة الأخطار الخارجية من المحيط الإقليمى والدولى الساعى (ولا يزال) للسيطرة على مقدراتها لأسباب مصلحية بحتة قبل أن تكون حتى أسبابا تآمرية لدرجة أن بعض الدراسات الشهيرة فى مجال الديمقراطية تعزى سبب غياب الأخيرة فى المجتمعات العربية إلى توغل أجهزة المخابرات والأمن فى الشأن الداخلى وصنع القرار. يقابل ذلك فريق آخر يرى أن هذا التوغل ضرورى لحماية أمن هذه الدول الخارجة لتوها من براثن الاستعمار ولازالت تقاوم أشكال الأخير الحديثة فى السيطرة بأساليب غير تقليدية.
•••
ترددت أكثر من مرة فى الحديث عن هذا الموضوع وخصوصا مع التقلبات السياسية والأمنية فى الداخل المصرى، لكن مجموعة من الأحداث المتلاحقة فى الآونة الأخيرة تجعل تأجيل الموضوع أكثر من ذلك غير محتمل، فالمصارحة والمكاشفة واللغة الهادئة الباحثة عن مصلحة الوطن بحق تجعل على كل المهتمين بمصلحة مصر الدولة لا النظام التعرض لأهم ملامح هذه المعضلة بحثا عن حلول ولو مبدئية تسهم فى تهدئة الأوضاع بوضع النقاط فوق الحروف بدلا من المداهنات المعتادة تزلفا وقربا من هذه الأجهزة أو الهجوم العشوائى غير المسئول الذى تختلط فيه الأوراق عادة وتضيع للأبد.
أولا: منذ اندلاع ثورة يناير ويمكن ملاحظة الدور الدفاعى الذى أخذته هذه الأجهزة والتى اعتبرت أن الثورة مهددة لها ولكيانها ولحساباتها وشباكاتها ومصالحها المعقدة، ظهر ذلك فى نظرية المؤامرة التى طفت على السطح منذ الشهور الأولى للثورة متهمة الأخيرة بأنها لا تعدو أن تكون مؤامرة على الدولة المصرية سعيا نحو هدمها، ولعل حادث اقتحام مقرات أمن الدولة (الأمن الوطنى حاليا)، قد أجج فى تقديرى هذا الاعتقاد الذى تبناه مسئولون رسميون لاحقا وتحول من مرحلة التلميح إلى مرحلة التصريح كما نرى الآن.
ثانيا: وصل الأمر ذروته فى رأيى مع استقالة الدكتور البرادعى نائب رئيس الجمهورية السابق يوم فض اعتصامى رابعة والنهضة، إذ إن موجة هجوم صريحة على الرجل على لسان إعلاميين وأمنيين سابقين انطلقت بلا هوادة لاتهامه بالعمالة والمشاركة فى هدم الدولة (وعلى لسان البعض هدم الاسلام!) ثم تطور بعد ذلك ليطول كل الفاعلين المشاركين فى الثورة بداية من الإخوان ومرورا بحركة ٦ ابريل ثم وصولا باقى شباب الثورة وتياراتها المتنوعة ومعهم أى شخص مازال يؤمن بالثورة ويعبر عن رأيه فى هذا الشأن.
ثالثا: وصل الأمر إلى مرحلة لا تطاق مع قيام أحد المنتسبين إلى الإعلام بعرض تسجيلات للبرادعى (قبل توليه المنصب) بادعاء أنها تثبت عمالته لأجهزة مخابراتية دولية ولا يفوت القارئ أبدا أن مثل هذه التسجيلات لا يمكن أن تكون إلا بعلم هذه الأجهزة وربما بمساعدتها للإعلامى المذكور ولا يحدثنا أحد عن سبق صحفى لأن مثل هذه الأمور لا تكون بمجرد اجتهادات صحفية وحتى لو نجحت الأخيرة مرة أو اثنين فى التسجيل فقطعا لن تنجح فى الحصول على تسجيل كامل لأكثر من مكالمة فى أكثر من مناسبة وليس للبرادعى فقط ولكن لغيره من شباب وشخصيات عامة أخرى منتسبة للثورة.
رابعا: السؤال المنطقى هنا بسيط ولا يرغب أحد فى إثارته فضلا طبعا عن الإجابة عليه، اذا كان البرادعى عميلا مخابراتيا على هذه الدرجة من الخطورة فلماذا سمح للرجل بمنصب نائب رئيس الجمهورية وهو ثانى أرقى وأخطر منصب فى الدولة بعد رئيس الدولة؟ يعلم المشتغلون بالشأن العام أن مجرد ترشحك لمنصب عام حتى لو كان مجرد رئاسة أحد قصور الثقافة أو مراكز الشباب (فما بالك بنائب رئيس الجمهورية؟) يتطلب تحريات أمنية دقيقة، وهو ما يعنى أننا أمام احتمالين كلاهما خطير، إما أن هناك إهمالا جسيما أو أن هناك تآمرا رهيبا وهنا لابد من المحاسبة.
خامسا: إذا افترضنا أن وصول شخص بخطورة وعمالة البرادعى (مجرد فرض لأنى قطعا لا أؤمن بذلك)، كان خطأ أو سهوا، فماذا عن وائل غنيم الذى حرص رجال المجلس العسكرى السابق (وبعضهم مازال فى منصبه)على لقائه والإشادة به وبوطنيته ثم فجأة تحول هو الآخر إلى جاسوس وعميل؟ ماذا عن أحمد ماهر الذى قابل رئيس الجمهورية المؤقت عدلى منصور بعد ٣٠ يونيو؟ علامات استفهام كثيرة بلا إجابات!
سادسا: إذا قيل إن اتهاما رسميا لم يصدر بعد فى حق هؤلاء (أحمد ماهر محبوس للتظاهر بدون تصريح وليس للعمالة بالمناسبة)، فلماذا تسكت الأجهزة الأمنية على أبواق بعض الإعلاميين وهى تذيع هذه التسجيلات والاتهامات ليل نهار؟ لماذا لا توضح لنا الأجهزة كيف تسربت هذه المكالمات؟ ولماذا لم يتم التعامل فى حينه طالما أن الأدلة موجودة؟ والأهم طالما أن هذه الاتهامات تصدر حتى من بعض الأمنيين السابقين الذى يدعون ليل نهار أنهم خبراء استراتيجيون على صلة بالأجهزة، فلماذا لا توضح الأجهزة موقفها، ألا ترى أن هذه الاتهامات موجهة لها قبل أن تكون موجهة إلى المتهمين؟
•••
أسئلة مازالت بلا إجابات، تدفع البعض للتطرف فى اتجاه الاعتقاد أن حال مصر لن ينصلح إلا بهدم هذه الأجهزة وهو أمر خطير لا أقبل به لاعتبارات اتصورها وطنية بحتة، ولكنى أيضا لن أندفع متزلفا لها وموافقا أو ساكتا على ما يحدث بدعوى حماية مصر! مصر لن ينصلح حالها إلا بإصلاح هذه الأجهزة، إصلاح يعنى تغيير فى العقيدة، يعنى إيقاف التسريبات واللجوء إلى القضاء إن كانت الاتهامات جدية حقا، أما استمرار هذا الهزل فهو عين التهديد لمصر وأمنها، فهل تدركون ذلك وتحلون هذه المعضلة قبل فوات الأوان؟