ــ 1 ــ
حينما صدر مشروع (مكتبة الأسرة) للمرة الأولى فى صيف عام 1994، ظهر من خلال ثلاث سلاسل فقط، هى:
سلسلة (الأعمال الإبداعية) أو روائع الأعمال الإبداعية التى استوعبت النصوص الأدبية من الروايات والقصص والمقالات لأبرز وأهم كتَّاب الرواية والقصة فى مصر، منذ جيل الآباء الرواد، ومؤصلى الأنواع الأدبية الحديثة فى الأدبين المصرى والعربى، وحتى أسماء جيل الستينيات، وما بعده بقليل.
والسلسلة الثانية، هى (الأعمال الفكرية) التى اضطلعت بنشر الأعمال والدراسات والفكرية والتاريخية والاجتماعية، والأعمال ذات القيمة فى حقلها المعرفى، ومن ذلك بعض أعمال طه حسين، وأحمد أمين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، ومحمد حسين هيكل... إلخ.
والسلسلة الثالثة الممتازة (ولا أعلم من كان وراء هذه الفكرة، ولا تنفيذها بهذا الشكل الرائع)، أقصد سلسلة الكتيبات التى نُشرت تحت عنوان (تراث الإنسانية)، والتى اكتشفنا فيما بعد أنها مقالات كاملة مستلَّة من المجلة الرصينة التى كانت تصدر فى مصر فى ستينيات القرن الماضى بالعنوان ذاته.
ــ 2 ــ
أذكر جيدا تفاصيل السنة الأولى فى المشروع [الوليد] كانت أغلفة الكتب رديئة جدًّا، والصفحات فى منتهى السوء، وكان الحبر الأسود على الغلاف يلوث الأصابع وكف اليد «حاجة مهببة الصراحة!»، لكن فى المقابل كان الكتاب الواحد منها يُباع بـ 50 قرشًا فقط! وكان الكتيِّب الواحد من سلسلة (تراث الإنسانية) يباع بعشرة قروش! وهذا فى حد ذاته كان كفيلًا بالتغاضى عن الحبر الأسود، وعن سوء الطباعة ورداءة الورق.. فالمهم المحتوى!
ورغم ذلك كلِّه، وعلى مستوى عاطفى بحت، فقد أحببت أغلفة هذه السنة (أنا عمومًا من محبى أغلفة المرحوم الفنان جمال قطب؛ من أعماله الشهيرة فى مكتبة مصر).. ولا أنسى أننى فى هذا العام قرأت ما يقرب من خمسين عملًا كاملًا من روائع الأدب العربى، وروائع الأعمال الفكرية، لكبار الكتاب؛ خذْ عندك: «الأيام»، و«على هامش السيرة»، و«مرآة الإسلام»، و«دعاء الكروان»، وكلها لطه حسين.. و«حياة محمد» لهيكل، و«عبقرية محمد» و«عبقرية المسيح» للعقاد، و«محمد رسول الحرية» لعبدالرحمن الشرقاوى.. وغيرها.
ــ 3 ــ
فى السنة الثانية (1995) كانت شهرة مكتبة الأسرة فائقة، فقد حققت لدى صدور عناوين العام الأول نجاحًا مذهلا للدرجة التى رصدت فيها الصحف ووسائل الإعلام طوابير طويلة وزحامًا كبيرًا على منافذ توزيع ومكتبات الهيئة المصرية العامة للكتاب، طوال أشهر الصيف، وللمرة الأولى فى تاريخنا الحديث، لشراء الكتب وليس الزيت والسكر!
وقد كنت شاهدًا على هذا بنفسى، ورأيت بعينى ما حدث، فقد كنت أعمل آنذاك فى واحدةٍ من هذه المكتبات، ولم أكن أحصل على جنيه واحد من المكافأة الزهيدة التى كنت أحصل عليها، لأننى كنت أشترى كتبًا بكامل قيمة هذه المكافأة الشهرية!
المهم، ومع النجاح الساحق لمكتبة الأسرة، والإقبال المذهل والكبير جدًّا جدًّا من الجمهور، بدأ المشروع يتوسع ويكبر وينظم إصداراته فى سلاسل عدة، كان من أهمها على الإطلاق وأذيعها وأكثرها رواجا سلسلة (روائع الأعمال الإبداعية) التى من خلالها وفَّرت المكتبة أبرز وأهم بل أقيم العناوين فى الرواية والقصة والإبداع الأدبى والنقدى عمومًا لكبار الكتاب، منذ جيل الآباء المؤسسين فى الأدب العربى (على مبارك، الإمام محمد عبده، فرح أنطون، إبراهيم المويلحى، مصطفى لطفى المنفلوطى، ثم طه حسين، محمد حسين هيكل، توفيق الحكيم، المازنى، العقاد، محمود تيمور، يحيى حقى... إلخ) مرورا بالأجيال الذهبية التالية، الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وصولًا إلى الجيل الأشهر آنذاك، جيل الستينيات.
ــ 4 ــ
وأظن أنه لولا إصدارات مكتبة الأسرة، وبخاصة من خلال سلسلة (روائع الأعمال الإبداعية)، ما تمكن جيلى وأجيال تالية من التعرف على أبرز أسماء وأعلام الأدب المصرى المعاصر، وخاصة إبداعات جيل الستينيات هؤلاء الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، لكننا (أقصد من كانوا يخطون نحو الخامسة عشرة تقريبًا) كنا نسمع ونعرف الأسماء دون أن نكون عاينا نصوصهم بشكل وافٍ ومكتمل. وفى تقديرى أن الانتقالة الكبرى فى ذيوع وشهرة أسماء جيل الستينيات (الذى مقصورا ومحدودا على بيئات بعينها وفى حدود الدوريات واللقاءات والهوامش التى كان متاحا لهم المشاركة فيها والظهور من خلالها طيلة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى)، تزامنت مع إطلاق مشروع مكتبة الأسرة، فقد أتيح لآلاف من المقبلين على قراءة الأدب والنصوص الأدبية أن يقرأوا للمرة الأولى نصوصا كاملة لبهاء طاهر، وإبراهيم أصلان، وخيرى شلبى، وجمال الغيطانى، ويحيى الطاهر عبدالله، وعبدالحكيم قاسم، ويوسف القعيد، ومحمد البساطى.. وخلال الفترة من 1994 وحتى 2010 ظهر ضمن إصدارات المشروع أكثر من نص مؤسس ومشهور لكل هذه الأسماء.
ــ 5 ــ
لم يكن من الممكن أن أتعرف على رائعة يحيى الطاهر عبدالله، على سبيل المثال، «الطوق والأسورة» إلا من خلال طبعة مكتبة الأسرة سنة 1996، ثم ظهرت أعماله الكاملة أيضًا فى طبعة خاصة عن المكتبة. وقرأنا رائعة سليمان فياض «أصوات»، و«أيام الإنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم، وعرفنا أن هناك روائيا سودانيا عبقريا اسمه الطيب صالح له رواية قلبت الدنيا وظلت (وربما لا تزال!) حديث الناس، اسمها «موسم الهجرة إلى الشمال» (صدرت عن مكتبة الأسرة عام 1996 بمقدمة رجاء النقاش الحماسية والمحرضة على القراءة!).
واستمتعنا بقراء شىء من سيرة الأنيق بهاء طاهر بقلمه فى المقدمة التى ألحقها برائعته «خالتى صفية والدير»، وقرأنا له «أنا الملك جئت»، و«نقطة النور» أيضًا.. تعرفنا على كاتب ساخر صاحب عبارة لاذعة وتصوير فريد اسمه محمد مستجاب، وقرأنا له فى الطبعات التى وفرتها مكتبة الأسرة «ديروط الشريف»، و«السابع من آل مستجاب»... إلخ.
لقد كانت سنوات ــ وذكريات ــ مليئة بالبهجة والمعرفة والسرور ومتعة القراءة وشغفها الذى لا ينضب..
(وللحديث بقية)..