معاداة السامية.. وحرية التعبير في الجامعات الأمريكية - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معاداة السامية.. وحرية التعبير في الجامعات الأمريكية

نشر فى : الأحد 17 ديسمبر 2023 - 7:35 م | آخر تحديث : الأحد 17 ديسمبر 2023 - 7:35 م
الاعتقاد الشائع هو أن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة تتيح مجالا واسعا لحرية التعبير، من يقرأ الصحف الغربية ومن يشاهد قنوات التلفزيون فى هذه المجتمعات يجد الدليل على ذلك فى المقالات التى تنتقد سياسات حكوماتها، والبرامج الحوارية التى تتسع لجميع الآراء، بل والبرامج التى تسخر من قادتها، ومع ذلك لا يُلقى القبض على كُتاب هذه المقالات، ولا يودع من يسخر من قادتها فى غياهب السجون، بل ويؤيد المفكرون الماركسيون وجود حريات سياسية ومدنية فى هذه النظم، ولم يعودوا يصفون النظم السياسية فى هذه المجتمعات بأنها ديمقراطيات زائفة بل يجتهدون فى شرح الأوضاع التى يمكن من خلالها للحركات العمالية والأحزاب الاشتراكية أن تنقل هذه المجتمعات على طريق مغاير، ويصل الأمر إلى حد أن مفكرا جليلا وهو العلامة الفرنسى، لويس ألتوسير، الذى ألهمت أفكاره أجيالا من علماء الاجتماع والسياسة من بعده قد ذهب إلى أن طبيعة نمط الإنتاج الرأسمالى السائد فى هذه البلدان، فى أوروبا الغربية والوسطى والولايات المتحدة وكندا واليابان، يترك للمؤسسات التى تشكل عقول المواطنين والمواطنات مثل الدولة وأجهزة الإعلام والجامعات ومراكز الأبحاث استقلالية واسعة، وأن هذه الاستقلالية تعزز استمرار النظام الرأسمالى، ومن شواهد هذه الاستقلالية إدخال الدولة مثلا إصلاحات تكلف الرأسماليين دافعى الضرائب الكثير، ولكنها تؤدى إلى زيادة العمالة وارتفاع دخول الأفراد وتخفيف أعباء الحياة عنهم، مما يؤدى إلى رضائهم العيش فى ظل الرأسمالية وبقاء النظام الرأسمالى. وفى ظل هذه الاستقلالية تخرج من الجامعات ومراكز الأبحاث انتقادات للاقتصاد الرأسمالى، ولكن هذه الانتقادات تجد طريقها لصناع السياسة، فيصلح من مسار هذا النظام.
تملكنى العجب فى زيارتى الأولى لنيويورك عندما كنت أبحث عن كتب بعض المفكرين الماركسيين، ووجدت أن المكتبة التى تبيع كتبهم تسمى مكتبة الثورة، وتقع بالقرب من حى جرينتش الشهير بمقاهيه ومطاعمه ونوادى موسيقى الجاز. مع هذا المجال الواسع لحرية التعبير كان مدهشا لى ولكُثر هو ضيق الحكومات فى الدول الرأسمالية المتقدمة باحتجاجات الطلاب ضد الحرب الوحشية التى تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطينى فى غزة وفى الضفة الغربية إلى حد استقدام ثلاث من رئيسات أشهر هذه الجامعات لمحاكمة علنية أمام الكونجرس الأمريكى، وممارسة الضغوط من جانب الساسة ورجال الأعمال من ممولى هذه الجامعات لإقالة الرئيسات الثلاث، ولاتخاذ إجراءات تأديبية ضد الطلاب الذين قادوا هذه الاحتجاجات.
لم يقتصر الأمر على الولايات المتحدة الأمريكية، بل امتد إلى بعض الدول الأوروبية من حظر الاحتجاجات المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطينى، بل واقتراح أن يشمل الاختبار الذى يخضع له من يطلب الجنسية الفرنسية تقديم الدليل على ما يسمى عدم معاداة السامية، وهو التعبير الذى أصبح شائعا والمقصود به عدم انتقاد إسرائيل. فكيف يصل الحال فى هذه النظم التى تدعى الديمقراطية وتدعو لها على مستوى العالم، وتعادى النظم الموصوفة بالديكتاتورية، أن تسمح لمواطناتها ومواطنيها ومؤسساتها الإعلامية والعلمية أن تنتقد نظامها الاقتصادى والسياسى، ولكنها تناصب العداء لمن ينتقد إسرائيل، أو يظهر التضامن مع الشعب الفلسطينى؟

الاحتجاجات الموصوفة بمعاداة السامية

لعل تعدد واتساع مظاهر التضامن مع الشعب الفلسطينى والرفض لما يتعرض له الفلسطينيات والفلسطينيون فى غزة فى الدول التى وقفت حكوماتها ضد وقف إطلاق النار، متعللة بأن ما تقوم به إسرائيل هو ممارسة لحق كل دولة فى الدفاع عن نفسها هو من أهم النتائج التى ترتبت على الحرب الوحشية التى تخوضها آلة الحرب الإسرائيلية ضده، ومن بين من شاركوا فى هذه الاحتجاجات قادة أحزاب سياسية ومنظمات حقوقية وأفراد دون انتماءات سياسية محددة، وإن كان كُثر منهم من أصحاب التوجهات اليسارية، كما ضموا أيضا رجال دين يهود ومسيحيين ومسلمين، فضلا عن دبلوماسيين. ولكن الذى يهمنا فى هذا السياق هم طلاب الجامعات والمفكرون أصحاب المكانة المرموقة وذوو الصيت الواسع.
لا تتوافر لدى الكاتب معلومات عن احتجاجات طلابية خارج الولايات المتحدة، ليس لأنها لم تقع، ولكن لأن احتجاجات طلاب الجامعات الأمريكية كانت الأوسع نطاقا والأشمل بالتغطية الإعلامية، ولا عجب فى ذلك فهى توصف بأنها أكبر موجة احتجاجات طلابية منذ حرب فيتنام فى أواخر ستينيات القرن الماضى، كما امتدت إلى كبرى وأشهر الجامعات الأمريكية مثل هارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المعروف باسمه المختصر MIT، وجامعة بنسلفانيا، وكولومبيا، وستانفورد، وشيكاغو، وكورنيل، وغيرها من الجامعات، ولم تقتصر هذه الاحتجاجات على الطلاب بل شارك فيها أيضا أساتذتهم، وبينما كانت أغلب هذه الاحتجاجات هى التى قام بها طلاب متعاطفون مع الشعب الفلسطينى، ولكن واكبها كذلك أنشطة قام بها الطلاب المؤيدون لإسرائيل.
اللافت للنظر أنه إلى جانب الأشخاص مناصرى حقوق الشعب الفلسطينى من عقائد دينية متباينة كان هناك أيضا يهود يشاركونهم نفس الموقف، طلابا وأساتذة، ومن أبرز التنظيمات التى قادت هذه الاحتجاجات كان التنظيم الوطنى «طلاب من أجل العدالة فى فلسطين»، وصوت يهودى للسلام. كذلك، اتخذت هذه الاحتجاجات صورا متعددة منها الخروج من قاعات الدراسة رفضا لما يقوله بعض المحاضرين أو كنوع من الإضراب، وعقد المؤتمرات والمسيرات ورفع اللافتات المعبرة عن هذه المواقف. وشارك الأساتذة بتنظيم دروس يلقيها أساتذة غالبا من ذوى اتجاهات متعارضة يطرحون حججهم فى هدوء، ومنها على سبيل المثال سلسلة الدروس التى ألقتها د. أمانى جمال، عميد معهد الشئون الدولية والعالمية بجامعة برينستون، وهى فلسطينية الأصل مع عميد سابق لإحدى كليات جامعة كولومبيا وهو أمريكى إسرائيلى. وفى جامعة برينستون أدار إحدى هذه المحاضرات رئيس الجامعة، وهو يهودى، أصدر بيانا يعرب فيه عن تعاطفه مع ضحايا العنف فى غزة من العرب واليهود على السواء.
أثارت هذه الاحتجاجات القلق لدى الطلاب اليهود وخارج الجامعات لقيت السخط لدى الشركات التى تقدم منحا للجامعات ولدى الساسة وخصوصا من الحزب الجمهورى، ومع أن العنف كان غائبا عن معظم هذه الأنشطة إلا أن تواجد تجمعات مؤيدة لطرفى الصراع فى الشرق الأوسط فى نفس الجامعة وفى مواجهة بعضهم البعض أدى إلى صدامات عنيفة واستدعى تدخل الشرطة وإلقاء القبض على بعض الأشخاص المشاركين فيها، وكانوا جميعا من المناصرين للجانب الفلسطينى. ولكن القلق خارج الجامعات لم يكن بسبب هذه الصدامات، ولكن لأن مقدمى هذه المنح أو أصحاب العقود مع الجامعات كانوا من أنصار إسرائيل، وأزعجهم أن الجامعات التى يقدمون لها العون لا تتخذ إجراءات تأديبية ضد الطلاب الذين ينتقدون ممارسات إسرائيل. وقد سعوا للضغط على إدارات هذه الجامعات لمعرفة أسماء الطلاب المؤيدين للشعب الفلسطينى حتى يتجنبوا تشغيلهم بعد تخرجهم، وطالبوا أيضا أن يكون لهم سلطة تحديد المقررات التى يدرسها الطلاب وفحوى هذه المقررات ومن يقوم بتدريسها!
كان لمثل هذه المطالبات وقع شديد داخل الجامعات، فالجامعات الأمريكية فى معظمها لا تعتمد على العون الحكومى إلا فى حدود لا تتجاوز عادة ٤٠٪ من نفقاتها وعليها أن تبحث عن التمويل من مصادر خاصة لما يقترب من ثلثى هذه النفقات. ونفذ بعض هؤلاء المانحين هذا التهديد فى حالة جامعة بنسلفانيا، وذكر أحد الأساتذة الأمريكيين أن بعض الأساتذة فرضوا على أنفسهم نوعا من الرقابة الذاتية خشية أن تلفت أقوالهم فى قاعات الدرس، أو كتاباتهم، غضب هؤلاء المانحين.

الكونجرس ينصب نفسه رقيبًا على الجامعات

على أن أخطر النتائج التى ترتبت على هذه الاحتجاجات الطلابية هو موقف مجلس النواب الأمريكى الذى عقد محاكمة لقيادات ثلاث من هذه الجامعات، وتصادف أن تتولى منصب الرئيس فيها ثلاث سيدات هن كلودين جاى، وسالى كورنبلوث، وليز ماكجيل، بالترتيب فى جامعات هارفارد وماساتشوستس وبنسلفانيا. فقد استدعت لجنة التعليم وقوة العمل فى مجلس النواب والتى يترأسها أعضاء جمهوريون فى الخامس من ديسمبر الحالى الرئيسات الثلاث للمساءلة عما اعتبرته اللجنة إخفاق جامعاتهن عن اتخاذ إجراءات كافية لمقاومة الدعوة لإبادة اليهود، التى تزعم أن الطلاب المناصرين لفلسطين رددوها فى الجامعات الثلاث. وقد اعتبرت نائبة نيويورك، إليس ستيفانيك، أن ترديد شعارات مثل الحرية لفلسطين أو تأييد الانتفاضة هو تهديد بإبادة اليهود. وقد حاولت الرئيسات الثلاث إقناع أعضاء اللجنة أن ترديد مثل هذه الشعارات ليس سلوكا معاديا لليهود، ولا يعادل الدعوة لإبادة اليهود، ولا يخالف قواعد العمل فى الجامعة، وبطبيعة الحال فلم يكن تغيير موقف أعضاء اللجنة سهلا، فقد حضروا إلى هذا الاجتماع الذى استغرق ساعات وهم مصرون على معاقبة هذه الجامعات وغيرها بسبب السماح للطلاب بالتعبير عن آراء لا يؤيدونها، ولا يؤيدها من يمول حملاتهم الانتخابية. وقد حاولوا فيما بعد استصدار قرار من مجلس النواب الأمريكى يدعو الجامعات لاتخاذ إجراءات لمكافحة الدعوة لإبادة اليهود، وهو مشروع قرار لم يوافق عليه النواب الديمقراطيون فى المجلس.
لم تقتصر مساءلة الجامعات على جلسة الاستماع هذه فى لجنة التعليم فى مجلس النواب ولا محاولة استصدار قرار منه، فقد أجرت وزارة التعليم تحقيقا حول هذا الأمر، وأبدى مرشحو الرئاسة الجمهوريون غضبهم مما يجرى فى الجامعات، وشاركهم فى ذلك حكام الولايات المعنية. وسحب واحد من كبار ممولى جامعة بنسلفانيا منحة تقدر بمائة مليون دولار من الجامعة، وانتهى الأمر بمجلس الجامعة إلى طلب استقالة رئيستها ليز ماكجيل.

مكافحة العداء للسامية والأسطورة المؤسسة للديمقراطيات الغربية

تحتاج كل النظم السياسية لأساطير تقيم عليها شرعيتها، ولا يكفى للنظام الرأسمالى أن يقيم شرعيته على أساس نجاحه الاقتصادى فى رفع مستوى معيشة المواطنين والمواطنات، وزيادة ثروات بلادهم، فالأزمات الاقتصادية هى سمة متكررة فى هذا النظام، والتفاوت فى توزيع الدخل واستمرار هذا التفاوت هو نتيجة حتمية لقواعد العمل فيه التى تقوم على الملكية الخاصة والاستناد لقوى السوق، ولذلك فادعاء مقاومة العداء للسامية هو أسطورة بديلة يتباهى بها ويوسع من تفسيرها بحيث يصبح العداء للسامية هو العداء لليهود، بالغفلة عن أن العرب هم أيضا ساميون فى كثرة منهم، وبتوسيع مفهوم العداء للسامية لكى يكون مساويا للعداء لإسرائيل، وبالتغاضى عن أن من ينتقدون إسرائيل ويناصرون الشعب الفلسطينى هم أيضا كثيرون من اليهود، وليسوا من اليهود المغمورين فهم يشملون أفرام ناعوم تشومسكى الفيلسوف الأمريكى الشهير، وبيرنى ساندرز زعيم اليسار فى الحزب الديمقراطى، فضلا عن الشخصيات اليهودية التى سبق ذكرها فى هذه المقالة.
بل إن الذين يقودون الحملة ضد حرية التعبير فى الجامعات الأمريكية هم حلفاء الجماعات المتعصبة فى مجتمعهم، فعضوة مجلس النواب الأمريكى التى قادت الحملة ضد الجامعات الثلاث، إليس ستيفانيك، هى من أشد أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، وقد ناصرته فى الدعوة لإبطال نتائج الانتخابات الرئاسية فى ٢٠٢٠ التى خسرها، وقد فصلها معهد الدراسات السياسية فى جامعة هارفارد التى تخرجت منها بسبب هذا الموقف، وهى تشاركه فى هذا الموقف مع أنصاره الآخرين والذين يضمون جماعات التفوق الأبيض التى ترفض المساواة مع باقى الشعب الأمريكى من غير ذوى البشرة البيضاء، بل إن بعض الجماعات المؤيدة لترامب هى نفسها جماعات مؤيدة لليهود.
وتمتد أسطورة مكافحة العداء للسامية إلى الدول الرأسمالية الأخرى فى أوروبا، كغطاء للعورة التاريخية القديمة والمعاصرة لهذه الشعوب، فهى أصلا التى عادت اليهود، وهى تنكر عن نفسها استمرار العداء لهم بالمبالغة فى تأييد إسرائيل إلى الحد الذى يجعل بعض الفلاسفة الأوروبيين يتخلون عن قواعد التفكير الفلسفى، والتى تجعل فهم السياق هو المقدمة لفهم الأحداث والنصوص، وهكذا تغافل فلاسفة مثل جان بول سارتر فى فرنسا فى الماضى القريب، ويورجن هابرماس هذه الأيام، عن مأساة الشعب الفلسطينى وراء ما يسمونه حق إسرائيل فى البقاء وفى الدفاع عن نفسها.
الأجيال الشابة التى خرجت فى شوارع أوروبا الغربية والولايات المتحدة لا تنخدع بهذه الأسطورة، وترى أن كفاح الشعب الفلسطينى هو كفاح الأشخاص المظلومين، وتناصره مثلما تناصر غيره من المظلومين فى جميع قارات العالم.
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات