(1)
من بين أهم ما أثاره النقاش الجاد الثرى حول موضوع «ما النقد؟ قضايا وتحديات»؛ ذلك النقاش الذى تشرفتُ بالمشاركة فيه بصحبة الناقد والأكاديمى القدير الدكتور صلاح السروى، والكاتب والروائى القدير فتحى إمبابى، وأدارته الصديقة الكاتبة بهاء إبراهيم (ندوة افتراضية عقدت مساء الأحد الماضى)، أقول إن أهم ما جرى تداوله فى ذلك النقاش، إعادة تأطير تصوراتنا حول «ماهية النقد»، ووظيفته، وتطوره، ثم وذلك من وجهة نظرى أهم ما طرح فى اللقاء، هو عدم الفصل بين تلك مناقشة القضايا والموضوعات، وبين سياقات التحول الاجتماعى والسياسى والثقافى والتقنى المذهل الذى نشاهده ونلهث وراءه فى العقود الثلاثة الأخيرة.
وبالتالى، فلم يعد الحديث معلقًا فى الفراغ، ولم يعد محض ثرثرة تستدعى «التاريخى» أو «النظرى» أو «المعلوماتى» فقط أو تتحدث عن ظاهرة ما أو تطورٍ ما أو إشكالٍ ما من دون النظر الكلى إلى السياق العام والمجال العام إذا جاز التعبير، خاصة فى مصر منذ أواسط تسعينيات القرن الماضى، وحتى لحظتنا الراهنة.. إن كل ما جرى ويجرى من نشاط إبداعى، وكتابة نصية، واختفاء لظواهر أدبية وكتابية، ومسارات كانت تتحرك ببطء شديد ومحدودية ضيقة (مجال النشر على سبيل المثال)، ثم فجأة ومع انفجار ثورة الاتصالات والمعلومات، والانتقال إلى عصر الفضاءات الإلكترونية الزاخرة، انقلب الحال رأسًا على عقب وتغير ذلك كله! ما أدى إلى تدافع رهيب وسيولة تكاد لا تتوقف برزت معها ظواهر ونشاطات أخرى، ربما أصبح من المستحيل فى مقدور شخص واحد (ناقد أو منظر أو أكاديمى) واحد مهما أوتى من قدرة ومعرفة أن يلاحقها بمفرده أو يعكف على قراءتها وتحليلها واستخلاص تصورات نظرية أو نتائج دقيقة منها مثلما كان يحدث فى القرن الماضى.
(2)
وبالتالى، فقد كان المقترح المهم الذى قدمه الناقد الدكتور صلاح السروي، بضرورة تأسيس وإنشاء «مركز للدراسات الأدبية والنقدية والثقافية» تكون مهمته الأساسية هى رصد هذه الظواهر الجديدة وتحليلها ودراستها واستخلاص الأفكار التى تؤطر لها وتتنبأ بمساراتها فى المستقبل، على أن يضم هذا المركز فرقَ بحثٍ مقتدرة، مؤهلة، ذات كفاءة عالية، وقدرات خاصة، ومن ثم يتاح لها أن تقوم بأداء مهامها على أكمل وجه! طبعا من الوارد جدًا أن هناك من يقرأ الأسطر السابقة، ويبتسم فى سخرية واستهزاء، ويقول فى سره (وربما فى علانيته، لا مانع!) «ما هذا الهراء! ألدينا رفاهية إنشاء مركز للدراسات الأدبية والنقدية؟!»
ربما يكون معه بعض الحق، لكنى أتصور أن كل الأمم المتحضرة وأصحاب الثقافات الإنسانية العريقة لم يتجاوزوا أزماتهم ومراحل انتقالهم ولا الحد الفاصل بين فترة تاريخية معينة تتسم بالصعوبات والتحديات إلى أخرى مغايرة وجديدة إلا بالاعتماد على العلم والمعرفة والبحث المنهجى الجاد والرصين.. ولا أتصور ــ وقد أكون مخطئًا ــ أن هناك مسارًا آخر لتجاوز هذه الأزمات والتراجعات بدون الاعتماد على فكرة إنشاء «المؤسسات والمراكز المتخصصة» (فى إطار الجامعات والمؤسسات العلمية والأكاديمية، شرط أن توجد هذه المؤسسات أولا) وتحظى بمظلة عالية من الدعم والتمويل والاستقلالية واستقطابها للخبرات والكفاءات الحقيقية، ولا بد هنا من إيضاح ضرورى، فالأمر لا يقتصر على المجالات العلمية التطبيقية وحدها، أبدًا. بل يتسع ليشمل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية (الأدب والنقد والقانون والعلوم السياسية والفلسفة والتاريخ… إلخ)، التى لا جدال فى أنها تشكل الأساس والقوة الدافعة، بالتكامل مع العلوم الطبيعية، فى دفع مجتمعاتها إلى الأمام ووضعها على طريق التطور والتجديد والانطلاق إلى المستقبل!.
(3)
ورحم الله الناقد والمفكر الراحل الكبير لويس عوض الذى أشار فى محاضرة له شارك بها فى مؤتمر «نحو مشروع حضارى تربوى لمصر»، نظمته رابطة التربية الحديثة بكلية التربية جامعة عين شمس، عام 1987، أشار إلى ما أسماه «الأمية الثقافية» ووصفها بأنها «أم البلاء»! وكأن لويس عوض يسمع ويرى، ويحلل مصيبتنا منذ ثلاثة عقود أو يزيد! باقتدار وبصيرة رصد لويس عوض اللحظة التى دخلت فيها مصر نفقًا مظلمًا حين أدارت ظهرها للعلوم الإنسانية وللمعارف الفكرية والثقافية، واعتبرت أن تحصيل العلوم الطبيعية وحدها هو الكفيل بوضعها على الطريق!
فكانت النتيجة أننا وعلى مدار خمسين سنة لا احتفظنا بمكتسبات جيل الرواد وحصاد القوة الناعمة المصرية الحقيقية الأصيلة فى عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، من ترسيخ الاتجاه النقدى والعقلانية والبحث عن المنهج، والانتقال من طور التبعية إلى طور الخلق والإبداع، ولا نحن استطعنا اللحاق بأى تقدم علمى حقيقي، ولا شاركنا فى إنتاجه وتطوره، بل صرنا مجرد مستهلكين من دون تغييرٍ حقيقى وجذرى فى «العقلية» التى تستهلك هذا المنتج، ولا تستطيع خلقه أو ابتكاره إلا باستثناءاتٍ معدودة تؤكد القاعدة ولا تنفيها!. (وللحديث بقية)