هل للحوار الوطنى سقف يجب عدم تخطيه فى طرح القضايا الأولى بالنقاش، أم أن هناك خطوطا حمراء يجب عدم الاقتراب منها، والاكتفاء بتناولها بشكل «عمومى» لا يضرب عميقا؟ السؤال ربما تعكسه طبيعة التصريحات والآراء التى أخذت طريقها إلى وسائل الإعلام، وتلك التى ظهرت خلال لقاءات أو ندوات عامة شارك فيها عدد ممن جرت دعوتهم للحوار، أو من يعبرون عن قوى تم دعوتها لهذا الحوار.
فقد فتحت الدعوة التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال إفطار الأسرة المصرية فى 26 أبريل الماضى، بابا أمام الأحزاب والتيارات السياسية، والقوى الفاعلة فى المجتمع للتعبير عن رؤيتها لأولويات العمل الوطنى، وعززت، كما ذكرت فى مقال سابق، من فرص النقاش العام بشأن القضايا والتحديات التى تواجهها مصر فى الوقت الراهن، وفى مقدمتها الأزمة الاقتصادية فى ظل الانعكاسات السلبية للتوسع فى القروض، وما سببته الحرب الروسية الأوكرانية من ارتفاع فى أسعار الطاقة والغذاء.
ووسط أمانى، ولا نقول رغبات فقط، ينتظر المهمومون بمستقبل هذا الوطن أن تتحول جلسات الحوار الوطنى إلى ساحة لطرح كل الأفكار والآراء، وأن يركز المتحاورون على صلب التحديات، وألا ينجر البعض إلى الحديث فى قضايا هامشية، وفرعيات قد تستهلك طاقة المشاركين فى النقاش بأمور لا طائل من الإسهاب فيها، وأن يضطلع مجلس أمناء الحوار الوطنى الذى يعقد اجتماعه الثانى، اليوم، بالدور المهم الذى أسند إليه لانجاح هذا الحوار، وهو قطعا ليس بالمهمة اليسيرة.
قد يضع البعض المحور السياسى بما يتضمنه من حديث عن قضايا حقوق الإنسان، والحبس الاحتياطى، والمناخ الضاغط لعمل الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدنى، وسقف الحرية المتاح لوسائل الإعلام، على قمة الأولويات التى يجب طرحها على مائدة الحوار الوطنى، وأن يتم الإلحاح على ضرورة إعادة النظر فى العديد من القوانين التى تقيد العمل السياسى بمفهومه الشامل، وأن يحتل ملف الافراج عن جميع المحبوسين فى قضايا تتعلق بالحريات من غير المتورطين فى أعمال العنف والإرهاب، المساحة الأهم فى كل نقاش.
وربما يضع آخرون زيادة الاعباء المعيشية على الشرائح الاجتماعية المختلفة وخاصة الفقيرة والوسطى، من غلاء أسعار، وآخرها رفع سعر البنزين والسولار، وضعف الرواتب فى مواجهة غول التضخم، على رأس كل الأولويات فى أى حوار. فالأزمة الاقتصادية، وتداعياتها الاجتماعية تظل جوهر ما نعانيه، فى ظل أزمات دولية، لا تتيح لأحد التحكم فى مساراته التنموية بسهولة، وبما يصعب معه الوصول إلى النتائج المرجوة من بعض المشروعات التى لا تأتى بعوائد مالية تعطى تكلفتها على المدى القريب، وربما تحتاج إلى سنوات طويلة لجنى ثمارها.
طبعا الحوار الوطنى لن يكون عصا سحرية لحل مشكلات ومواجهة تحديات بالجملة، لكنه يفتح الأبواب والنوافذ لسماع أكثر من صوت للتعامل مع أزمات تراكمت عبر سنوات، وألقت بظلالها السلبية على المجتمع المصرى الذى يجتهد فى البحث عن مخرج آمن من عثرات أصابته بتشوهات لعلنا نلمس نتائجها ليل نهار، ويجب عدم الاستسلام لها على كل حال.
وفى تقديرى يبقى الحوار الوطنى وإن لم يحدث اختراقات كبرى فى كل القضايا المطروحة للنقاش، فرصة للتقليب فى سلم أولويات العمل الوطنى فى هذه المرحلة الصعبة التى تمر بها مصر، ولعل الإفراج عن المزيد من المحبوسين وبأعداد أكبر كثيرا مما شاهدناه فى الفترة الأخيرة يظل المكسب الأول الذى ننتظره من هذا الحوار، وبما يعيد الثقة فى جدوى العمل العام، ويدعم فى الوقت ذاته أسس بناء الدولة المدنية الحديثة التى نحلم بها جميعا.