تحولت حرب غزة فى شهرها السادس إلى حرب تجويع للشعب الفلسطينى المحاصر، بعدما فشلت آلة الحرب الإسرائيلية فى تحقيق أهدافها المعلنة بفضل استبسال المقاومة الفلسطينية. وزاد التعنت الإسرائيلى فى ملف التجويع، حيث فرضت على كل الأطراف الإقليمية والدولية توصيل المساعدات إلى قطاع غزة بالطريقة التى تراها مناسبة لتحقيق أمنها المفقود. فسمحت بالإنزال الجوى للمساعدات، الذى تبين عدم جدواه الاقتصادية، والآن أضافت الإمداد البحرى عن طريق قبرص، ولكن بعد عملية تفتيش صارمة تظهر التوجس والريبة الإسرائيلية فى كل شىء، فحتى مقص الجراح اللازم لعمليات الجراحة ممنوع، خشية وصوله إلى حماس. هذا ولم يعرف بعد جدوى الإغاثة عن طريق البحر، ما يعنى أن ما تبحث عنه إسرائيل هو المراوغة بالوقت، قبل أن تحين اللحظة المناسبة لاجتياح رفح.
يبدو أن المفاوض الفلسطينى فهم نوايا إسرائيل من خلال ما ظهر فى مفاوضات القاهرة التى كان من المفترض أن تحسم مسألة الهدنة قبل رمضان. فإذا بإسرائيل تتعنت يوما بعد الآخر. ولم يقبل الوفد الفلسطينى إملاءات إسرائيل، فكيف يوافق على هدنة ذات طبيعة مؤقتة يتخللها عملية تبادل أسرى محدودة ليست فى صالح المقاومة الفلسطينية، ثم تعود بعدها آلة الحرب لتضرب بلا هوادة 1,4 مليون فلسطينى فى مدينة رفح!. ومع فشل المفاوضات ودخول شهر رمضان زاد الضغط على مسألة توصيل المساعدات بسرعة للجوعى فى قطاع غزة، فلم تجد إسرائيل بدا من إعادة تشغيل معبر كرم أبو سالم لإدخال بعض المساعدات كما رأينا يوم 14 مارس. ولكنها مساعدات غير كافية، فالقطاع الذى كان يعيش على 500 شاحنة يوميا قبل الحرب يحتاج 2000 شاحنة يوميا بشكل فورى وليس بعض الشاحنات التى لا تزيد عن 230 شاحنة على أفضل تقدير. وتحاول إسرائيل إلصاق تهمة التجويع بالمقاومة وكأن الأخيرة هى المسئولة عن طريقة وصول ودخول المساعدات من خارج القطاع. بينما واقع الأمر أن المقاومة تعانى بنفس القدر مثل باقٍ أهالى القطاع المحاصر.
• • •
مسألة أخرى ظهرت مع ملف التجويع، وهى مسألة التوزيع. فأيّا كانت طريقة وصول المساعدات إلى داخل غزة، فإن مسألة توزيعها تخضع إلى الجهة التى تملك الإمكانيات من حيث المخازن، وتوزيعها الجغرافى، والكوادر ذات الخبرة فى توزيع المساعدات، بالإضافة إلى قوائم الأهالى. وتحت هذا العنوان «توزيع المساعدات» يتستر الاحتلال الإسرائيلى بغرض الإحاطة بالمقاومة الفلسطينية. فبداية شيطنة إسرائيل منظمة الأونروا، وهى الجهة الدولية الوحيدة القادرة على توزيع المساعدات، كما كان الحال منذ نشأتها عام 1949. وتحججت إسرائيل بأن الأونروا تعتمد على عناصر من المقاومة فى أعمالها، بينما الواقع تريد إسرائيل هدم الأونروا لأن مناهج مدارس الأونروا تنص على مسألة «حق العودة»، الذى ترفضه إسرائيل. ثم حاولت إسرائيل عن طريق آخر وهو استقطاب العشائر والقبائل التى ليست على وفاق مع حماس مثل دعمش والرميلات، من أجل تكليفها بمسألة توزيع الإغاثة. فإذا رفضت حماس هذا التعاون بين بعض العشائر وإسرائيل فإنها تساهم فى تجويع الشعب الفلسطينى، وإذا وافقت فإنها تساهم فى تقوية العشائر وسيكون لذلك ما بعده. ويجرى هذا المخطط فى ظل استهداف القوات الإسرائيلية لشرطة حركة حماس، الأمر الذى جعل مسألة توزيع المساعدات عملية مفخخة قابلة للانفجار.
وتؤكد هذه التحركات الإسرائيلية على أن أولويتها هى استمرار حالة عدم الاستقرار داخل غزة، مع فعل كل شىء ممكن لتعطيل معبر رفح، وعمل فصل وعزل فعلى بين غزة ومصر. وتجمع حكومة نتنياهو على هذا الأمر، وهى بذلك تعد مسرح العمليات فى القطاع، وتعد الموقف داخل إسرائيل، وتمهد دوليا لاجتياح رفح عبر التفاهمات مع الولايات المتحدة حتى تحين لحظة إطلاق الهجوم، والمرجح وقوعه بعد انتهاء شهر رمضان مباشرة. ويبدو أن موقف الولايات المتحدة الرافض للهجوم على رفح تراجع بعض الشىء. فبعدما كانت تنادى بعمل ممر إنسانى آمن لخروج أهالى القطاع باتجاه الشمال قبل بدء العملية، فإن الإشارات الواردة من الإدارة الأمريكية تؤكد موافقتها على شن إسرائيل عملية «مكافحة إرهاب» لتدمير أربع كتائب من حماس تمثل لواء رفح. ويبرر نتنياهو هذه الخطة بالقول، بإن عدم تنفيذها يعنى خسارة إسرائيل وانتصار حماس. ولكن لم يظهر نتنياهو كيف سنقيس صدق ما يدعيه، فبعد أشهر من دخول إسرائيل بريا إلى القطاع، لا تزال المعارك دائرة فى أقصى شمال غزة. ولقد حاولت المقاومة تنفيذ عملية تسلل يوم 13 مارس إلى داخل قاعدة زيكيم البحرية الإسرائيلية التى تبعد 2 كلم شمال القطاع، فى رسالة تشكك فيما تدعيه إسرائيل عن الموقف الميدانى.
نفس الشىء تكرر بعد ادعاء إسرائيل اغتيال مروان عيسى الرجل الثانى فى كتائب القسام، فهى تصنع هالة من شخصية وتضيف عليها كل الصفات الخارقة، ثم تدعى تصفيته، وتنشر الخبر لبث روح الانكسار والهزيمة داخل المقاومة. بينما على أرض الواقع، تقدم المقاومة عشرات القادة الشهداء من قبل، وأثناء طوفان الأقصى، ومنهم من أضافت إليه إسرائيل صفات خرافية، وفى كل مرة تدعى أن اغتيال ذلك القيادى كفيل بتغير كل شىء. ولكن يأتى الواقع بعكس ما تدعيه تصريحات جيش الاحتلال وادعاءات ساسته. فالمقاومة مستمرة بالرغم من فقد عشرات القادة من قبل، وفى أثناء حرب 7 أكتوبر الحالية، حيث تملأ كوادر الصف الثانى والثالث الأماكن الشاغرة بطريقة فورية دون أن ينتقص ذلك من أداء المقاومة، ولو كان الوضع عكس ذلك كما تدعى إسرائيل لانهارت المقاومة منذ شهور. ولكن الواقع أن إرادة الشعب الفلسطينى وصمود مقاومته هى الحقيقة التى تفعل إسرائيل المستحيل حتى تمحوها، ولكن لا تجد سبيلا لذلك. وبالأمس كشف تقرير سنوى تصدره وكالات المخابرات الأمريكية، صدر يوم 11 مارس الجارى، بعنوان «تقييم المخاطر» جاء فيه «من المحتمل أن تواجه إسرائيل مقاومة مسلحة مستمرة من حماس لسنوات قادمة، وأن الحرب فى قطاع غزة أبعد من أن تنتهى فى المستقبل القريب. وسيكافح الجيش لتحييد البنية التحتية تحت الأرض لحماس، والتى تسمح للمتمردين بالاختباء واستعادة قوتهم ومفاجأة القوات الإسرائيلية».
• • •
الشاهد أن دخول رفح واغتيال القادة، لن يغير من الواقع شيئا، فما تقوله إسرائيل هو محاولة لإخفاء واقع آخر أليم، حيث تكبدت خسائر عسكرية، واقتصادية غير مسبوقة فى تاريخها. الأمر الذى دفع حكومة نتنياهو لمناقشة قانون لتجنيد اليهود المتدينين من فصيل الحريديم لتعويض نقص الجنود، مما أدى إلى زيادة التحديات داخل المجتمع الإسرائيلى، بعدما هدد الحاخام الأكبر بأنه سيترك هو وأتباعه إسرائيل حال مرور هذا القانون. وبذلك على إسرائيل الاختيار بين استدعاء الاحتياط وتعميق الخسائر الاقتصاد، أو إنفاذ القانون مع المخاطرة بحدوث هجرة جماعية لعدة آلاف للخارج. وكلما مر الوقت كلما تكشفت هشاشة الموقف فى إسرائيل، والنصر فى هذا النوع من المعارك لمن يصبر.