هناك الكثير من الأسباب الموضوعية التى تدفع كلا من الحكومة المصرية والحركات الإسلامية فى غزة ليس إلى التواصل فحسب ولكن لفتح صفحة جديدة فى العلاقات بينها، وقد تكون الحرب البرية الثالثة التى تشنها إسرائيل على غزة هى الدليل على ضرورة فتح هذه الصفحة فى العلاقة بين الطرفين، والتى نأمل ألا تتأخر كثيرا.
•••
فمن الجانب المصرى أسباب فتح هذه الصفحة الجديدة عديدة. فى مقدمتها اعتبارات إنسانية محضة، فلا يمكن للشعب المصرى أن يتجاهل المأساة الإنسانية التى يعانى منها قرابة مليون وثمانمائة ألف من البشر يعيشون فى القطاع فى ظل حصار برى وبحرى وجوى يمنع عنهم التواصل بشكل طبيعى مع العالم بما فيه الدول العربية المجاورة، ويحرمهم من كثير من ضرورات الحياة، ويضيق عليهم فى الحصول على الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء. وهو أمر انتفض ضده كثيرون خارج الوطن العربى، ولا يمكن للأشقاء العرب بمن فيهم المصريون أن يديروا له ظهر الحائط.
وثانى هذه الاعتبارات هو حقائق الجغرافيا. فغزة هى على الحدود الشمالية الشرقية لمصر، وما يجرى فيها وحولها، أيا كان من يحكمها، يؤثر على مصر وعلى أمنها القومى. يشعر الفلسطينيون فى غزة بالحاجة للهرب من نيران آلة الحرب الإسرائيلية التى تعاود قذفهم باستهانة بالغة كل بضع سنين، فلا يجدون أمامهم مكانا آمنا أقرب من مصر، ولوح ساسة إسرائيليون بأن سيناء هى الوطن الثانى للفلسطينيين وهو ما رفضته كل القيادات الفلسطينية المسئولة، وربما غامرت فصائل فلسطينية أو مصريون متعاطفون معها بشن عمليات عسكرية على إسرائيل من سيناء، وربما تلقى بعض التنظيمات المسلحة فى سيناء عونا من تنظيمات مسلحة وربما من فصائل فلسطينية فى غزة، وهناك أخيرا تلك القصص المتداولة، والتى لم يصدر فيها حكم نهائى من القضاء المصرى بتورط حماس فى تهريب سجناء سياسيين أثناء ثورة يناير ومن علاقات حميمة بحكم الانتماء إلى تيار فكرى واحد بينها وجماعة الإخوان المسلمين، والتى يسعى النظام الحاكم فى مصر إلى اجتثاثها من الوجود.
وثالث هذه الاعتبارات هو أنه حتى ولو كان من الصحيح أن الحكومة المصرية تود لو انشقت الأرض وابتلعت حركة حماس، فإن احتمالات اختفاء حركة حماس من المسرح السياسى الفلسطينى ومن حكم غزة هو احتمال بعيد التحقيق، لا عن طريق الانتخابات التى ترفض الحركة فى واقع الأمر إجراءها حتى ولو تهيأت لها ظروف مناسبة لعلمها بأن شعبيتها قد تدهورت كثيرا طوال فترة حكمها التى قاربت ثمانية أعوام لأنها لم تحرز خلال هذه الفترة تقدما ملموسا لسكان غزة لا من ناحية أوضاعهم المعيشية ولا من ناحية التقدم على حل قضيتهم الوطنية التى لا تطرح لها الحركة برنامجا قابلا للتحقيق برفضها التفاوض مع إسرائيل، وعدم امتلاكها من القدرة العسكرية ما يجبر إسرائيل على قبول شروطها للحل مثل فكرة هدنة المائة عام مع الرفض المبدئى لوجود إسرائيل وعدم التخلى نهائيا عن خيار الكفاح المسلح. ولكن الأهم من ذلك أن حماس لن تختفى من المسرح السياسى الفلسطينى ولا من حكم غزة لأن إسرائيل فى واقع الأمر لا تريد ذلك. إسرائيل تحتاج حماس بمواقفها الرافضة للتفاوض مع إسرائيل أو الاعتراف بها أو الصلح معها لكى تواصل تصوير صراعها مع الفلسطينيين على أنه حرب ضد الإرهاب، ولكى تواصل تعميق شقة الخلاف بين الفلسطينيين، ولكى تجد حجة لرفضها الدخول فى مفاوضات جدية مع السلطة الفلسطينية. إسرائيل مستريحة تماما لوجود طرفين فلسطينيين متناحرين ولا يملك أى منهما أدوات ضغط فعالة على إسرائيل لا بالكفاح المسلح ولا بالمقاومة الشعبية السلمية.
•••
وهكذا تجد الحكومة المصرية أمامها ولسنوات طويلة قادمة حركة إسلامية تحكم قطاع غزة بكل مشاكله على حدودها الشمالية الشرقية، ولا تملك أن تتجاهل هذا الوضع.
أما من ناحية حماس، فهى مضطرة أيضا للتعامل مع الحكومة المصرية إن آجلا أو عاجلا، فمخرج سكان غزة عندما تضيق بهم المعابر إلى إسرائيل هو معبر رفح المصرية، وهو فى ظل الحصار ضرورى للسفر لبعض البلاد العربية وفى الحقيقة لكل دول العالم، ويمكن أن يكون ممرا آمنا لسلع وخدمات ضرورية للقطاع، وفضلا على ذلك فمازال للفلسطينيين عموما رصيد كبير من التعاطف من جانب الشعب المصرى، حتى وإن كان قد اهتز لدى بعض المصريين بسبب ما توارد من قصص عن دور لحماس إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين، وأخيرا فإن الحكومة المصرية، حتى فى ظل العلاقات المتوترة مع حماس لم تتخل عن موقفها المبدئى فى مناصرة الشعب الفلسطينى وتبنى قضيته والدفاع عن حقه فى إنهاء الاحتلال وإقامة دولته فى ظل حدود 1967، كما أن الحكومة المصرية هى الحكومة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى يمكن أن يقبلها أطراف الصراع الفلسطينى الإسرائيلى لأنها قادرة على التواصل بينهم، وهو التواصل الذى أثبت نجاحه لصالح كل هذه الأطراف وبموافقتها فى مناسبات كثيرة فى الماضى القريب.
•••
ومع ذلك فإن هذه الاعتبارات الموضوعية لم تدفع حماس والحكومة المصرية حتى كتابة هذه السطور إلى فتح الصفحة الجديدة المرجوة بينهما، فما الذى حال دون ذلك؟، وأدى إلى رفض حماس والجهاد الإسلامى المبادرة المصرية بوقف الصراع المسلح وقبول هدنة مع إسرائيل؟. هناك أسباب معلنة وأسباب أخرى مضمرة، ولكن ليس من الصعب التكهن بها. المتحدثون باسم حماس والجهاد الإسلامى يقولون انهم لم يسمعوا عن هذه الخطة إلا من الإعلام، وان الحكومة المصرية لم تتناقش معهم فى شروطها. لم يرد أى متحدث رسمى مصرى على مثل هذا الادعاء، وفيما يبدو فإن اتصالا قد تم مع نائب رئيس حركة حماس الدكتور موسى أبو مرزوق، ولكنه لم يكن بقصد التفاوض على شروط الهدنة ولكن فقط لإبلاغ الحركة بمضمونها، وهو أمر ما كان له أن يغيب عن قيادة الدبلوماسية المصرية التى لعلها تدرك أن أهم شروط نجاح أى وسيط هو أن يعامل أطراف الصراع على قدم المساواة، فلا يتصل ويتفاوض مع فريق ولا يفعل نفس الأمر مع الطرف الآخر. وهو ما تم مباشرة مع الوفد الأمنى الإسرائيلى ولم يتم بنفس الطريقة مع ممثلى حماس والجهاد الإسلامى. ولكن ليس من المرجح أن يكون ذلك هو السبب الأساسى لرفض المبادرة المصرية من جانب هذين التنظيمين. هناك رصيد هائل من عدم الثقة بين الطرفين. الحكومة المصرية لا تزال ترى فى حماس بحسب إعلامها وإدعائها وبعض قضاتها تنظيما إرهابيا ضالعا فى انتهاكات للسيادة المصرية أثناء ثورة يناير ومتواطئا مع جماعة الإخوان المسلمين الموصوفة بدورها بأنها منظمة إرهابية. ولذلك تفضل الحكومة المصرية أن يكون اتصالها مباشرا مع فريقها هى من الفلسطينيين، خصوم حماس فى السلطة الفلسطينية. وفى ظل هذه الاتهامات لا يرى بعض قادة حماس فى مصر وسيطا مقبولا ويفضلون عليها تركيا أو قطر. كما قد تكون هناك حسابات أخرى لدى قادة هذين الفصيلين فى غزة، منها أن استمرار قصف المدن الإسرائيلية بالصواريخ التى لم تسبب أضرارا كبيرة حتى الآن لإسرائيل، قد يدفع إسرائيل لتقديم تنازلات أهم لهما بالفتح الكامل للمعابر وإنهاء الحصار تحت اعتقاد هؤلاء القادة بأن الأثر النفسى للصواريخ المنطلقة من غزة يفوق أثرها المادى.
•••
هل يكون للأسباب الموضوعية ثقلها فتدفع الأطراف الفلسطينية المؤثرة فى غزة والحكومة المصرية إلى فتح صفحة جديدة فى العلاقات بينهما لصالحها جميعا. لو خلصت النية يمكن أن يحدث ذلك، ولكن التمهيد له ضرورى من جانب كل هذه الأطراف. الحكومة المصرية مطالبة بأن تتعامل مع أطراف النزاع الحالى على قدم المساواة كوسيط، بالتفاوض المباشر والاتفاق على الشروط قبل إعلانها للإعلام، كما أن خطابها الرسمى يجب أن يظهر تضامنا مع شعب تحت الاحتلال ويتخلى عن لغة لا تميزه عن خطاب الخارجية الأمريكية، كما أن كلا من حماس والجهاد الإسلامى مطالبان بأن ينفضا عنهما كل شكوك بالتورط فيما يهدد الأمن المصرى، وأن يدركا أن تغليب المصلحة الوطنية الفلسطينية يسبق وقوفهما فى نفس الصف مع من يشاركهما رؤيتهما الأيديولوجية دون أن يكون له دور فعال فى خدمة القضية الفلسطينية.