فى الأيام الأخيرة من عام ١٩٥٥، وقبل أعياد الميلاد بأسابيع قليلة وفى مدينة ساكرامنتو بولاية كاليفورنيا ولد طفل بعد حمل استمر سبعة أشهر فقط، سماه أبوه «وارن» متوسما فيه التدين والتقوى والصلاح! كان الأب الذى يدعى رولن جيفز زعيما ورئيسا للكنيسة الأصولية ليسوع المسيح لقديسى الأيام الأخيرة أو التى تعرف اختصارا بالأحرف الإنجليزية الأولى FLDS وهى بدورها منشقة عن كنيسة أخرى تمثل جماعة المورمون المسيحية فى الولايات المتحدة الأمريكية والتى تتمتع بشهرة واسعة فى ولاية «يوتا» الأمريكية وكذلك لها العديد من الأتباع فى بعض الولايات الأمريكية الأخرى وكذلك فى كندا!.
حرص الأب الذى تزعم هذه الكنيسة منذ منتصف الثمانينيات على أن يكون متمايزا ليس فقط عن باقى الكهنة المسيحيين البروتستانت، ولكن حتى عن جماعة المورمون نفسها، فلم يكتفِ بالانفصال عن الكنيسة الرئيسية للجماعة الأخيرة، ولكنه أنشأ طريقته الخاصة فى الصلاة، مؤلفا كتبا تشبه الإنجيل ومبشرا بنفسه كرسول للإله وممثل للسيد المسيح على الأرض! تزوج من نحو ٨٠ سيدة وفتاة تحت سن الرشد بشكل شفهى وبدون توثيق رسمى، وأنجب منهن حوالى ٦٠ طفلا، واتخذ من إحدى المدن الصغيرة فى ولاية أريزونا مقرا له!.
أصبح النبى الأب رولن جيفز مقدسا فى عيون أتباعه الذين تم تقديرهم بالآلاف والذين كانوا يطيعونه طاعة عمياء لثقتهم بأن الخلاص إلى السماء لن يكون إلا عن طريقه، فاتبعوه وأطاعوه مهما فعل أو أمر، لدرجة أن الكثير منهم كانوا يتركون له زوجاتهم بكل حب ورضا ليضاجعهن معتبرين أنهم بهذا يتبعون طريق المسيح! بل ووصل الأمر أن الأمهات والآباء كانوا يفخرون عندما يخبرهم الأب النبى أن بناتهن اللاتى لم يبلغن الرابعة أو الخامسة عشر قد تم اختيارهن للزواج منه، أو ممن يحددهم من ذكور الجماعة المرضى عنهم، فكانوا يزفون بناتهم إليه بكل فرحة وفخر، ورضا تام، وسكينة وطمأنينة!
• • •
من بين الـ٦٠ طفلا وطفلة، قرب الأب النبى ابنه وارن جيفز منه، ورغم أنه لم يكن الأكبر، ولكنه اصطفاه ليكون خليفته فى قيادة الكنيسة! لم يتخيل أحد قط أن الأب النبى سيموت، فهل يموت الإله أو ممثله فى الأرض؟ ورغم أن الأب كانت تبدو عليه علامات الشيخوخة والعجز الجنسى مع التقدم فى العمر، لكن لم يجرؤ أحد حتى على مجرد تخيل أنه سيمرض ويموت كما يحدث لباقى البشر!.
فور وفاة الأب، قام وارن جيفز الابن على الفور بإبلاغ مجتمع الأتباع طالبا منهم ومنهن التماسك لأن الأب لم يمت، ولكنه صعد إلى السماء، مدعيا أن المسيح اختاره هو ليكمل الرسالة! لم يتجرأ أحد على مساءلته، فأخذ الابن فى زيادة سيطرته من خلال إلزام كل الأتباع بصلوات وتسبيحات يومية تمجد الطاعة والحب والانسحاق فى الآخر وتقديس الروح البشرية، لكنه أضاف على كل ذلك البهارات اللازمة، فكما فعل أبوه، ادعى وارن الابن بأنه روح الله وجسده وأن الأتباع مختارون عن غيرهم للسماء والفردوس، ولكن بشرط الطاعة العمياء، وكما فعل الأب فقد أبلغ الأتباع بأن الرجال يقتربون من الجنة بمقدار ما يتزوجونه من النساء! فأخذ يقرب الرجال الذين يطيعونه ويزوجونه بناتهم وزوجاتهم طالما طلبهم النبى وارن، فيزوجهم من سيدات وبنات أخريات، ويغدق عليهم بالمال، أما من يغضب منهم فيطردهم من الملكوت الأرضى والسماوى معا!.
ولأنه ورث وقفا كبيرا تمثل فى آلاف الأفدنة والأموال والعقارات من الكنيسة عن طريق التبرعات التى كانت تتدفق عليه من الأتباع المخلصين، فقد كان هو الآمر الناهى فى كل شىء، لدرجة أنه ــ وأباه من قبله ــ أوهم أتباعه بأن سخط الله سينزل على مدينة سولت ليك سيتى، عاصمة ولاية يوتا، لو صممت الولاية على استضافة الألعاب الأولمبية الشتوية عام ٢٠٠٢ ليأمرهم بالهجرة إلى ولاية أريزونا فى جنوب الولايات المتحدة للنجاة من لعنة الله، واتبعه الأتباع صاغرين دون نقاش أو جدال!.
لكن على عكس الأب الذى تمكن من خداع السلطات الأمريكية المحلية عبر تغفيلها أو رشوتها، بل وعبر بعض القادة المحليين الذين كانوا يؤمنون به وبالتالى غضوا الطرف عن مخالفاته الجمة للقانون، اعتقادا بأن هذا هو منتهى الإيمان نحو الطريق للخلاص، فإن الابن كان حظه من النبوة أقل، حيث استيقظ بعض أتباعه من المخدوعين والمخدوعات بعد أن قام بطردهم من الكنيسة لعدم الطاعة أو لإفشاء الأسرار خارج الكنيسة، وبدلا من أن يشعروا بالعار والخزى والحرمان الكنسى كما فعل بعض المطرودين قبلهم، فإنهم قرروا أن يخبروا السلطات أخيرا، لتقوم الأخيرة بعد العديد من المراوغات والتخفى من جانبه بالقبض عليه ثم وبعد معركة قضائية طويلة تحكم عليه بالسجن مدى الحياة بعد أن ثبتت عليه الكثير من التهم، مثل الجمع بين أكثر من زوجة واغتصاب الأطفال والتحرش بهن، وإقامة علاقات جنسية مع المحارم من الأخوات، ليكتب وارن بنفسه معترفا بجرائمه منكرا أنه كان رسولا أو نبيا ليحاول لاحقا الانتحار لكنه فشل حتى اللحظة فى إزهاق روحه!.
• • •
قد تعتقد عزيزى القارئ/ عزيزتى القارئة أنها قصة من وحى الخيال، لكن الواقع أنها قصة حقيقية، بل وتحتوى على تفاصيل أكبر وأكثر فظاعة، لا تسمح بها مساحة النشر هنا، وقد أنتجت شبكة «نتفليكس» عنها وثائقيا بعنوان «لتكن لطيفا، صلِّ وأطع - Keep Sweet: Pray and Obey» تناولت بعضا من ملامح هذه القصة!.
قد تقول إنه بكل تأكيد كان أتباعه من الجهلة الأميين، لكن الواقع أن الكثير من أتباعه كانوا من المتعلمين المثقفين والمثقفات، ومنهم المهندسون والمهندسات، والفنانون والفنانات!
قد يقول البعض الآخر، أنه وبكل تأكيد بعد القبض على وارن جيفز واعترافه بنفسه بأنه لا إله ولا نبى، فقد صدم أتباعه، والحقيقة أن هناك من الأتباع من لا يزال يؤمن به وفى انتظار المعجزة السماوية ليخرج وارن جيفز من السجن ويقودهم نحو الملكوت، معتقدين أنه ورغم كل الفضائح التى ثبتت عليه فإنه مظلوم وأن صبرهم كمثل صبر المسيح الذى تحمل آلام صلبه لفداء البشرية وخلاصها!.
أخيرا قد يظن البعض أنها قصة استثنائية أو أنها قاصرة على ديانة بعينها، لكن الحقيقة أن دول العالم الشرقى والغربى، المتقدم منها والمتخلف، الصناعى منها والزراعى، بها عشرات إن لم يكن المئات من القصص الشبيهة من كل الأديان والأعراق، من المسيحية إلى الإسلام، ومن اليهودية إلى البوذية والهندوسية والسيخية!.
إنها ليست قصة مجتمع بعينه أو ثقافة بعينها أو دين بعينه، كما أن لا علاقة لها بظروف الفقر أو الغنى، التعليم أو الأمية، الثقافة أو الجهل، ولكنها قصة البشر الذين يبحثون دائما عن المعنى وسط الظروف الصعبة أو الأسئلة الوجودية التى لا إجابة لها، فيتمكن أحدهم من استغلال هذه الظروف والاحتياجات والأسئلة التى بلا إجابات لتطويعهم فى خدمته وتحويلهم إلى أتباع أذلاء لتحقيق أغراضه المريضة، وكلما شعر بالخوف من انكشاف سره وتهاوى حجته فإنه يقوم باستخدامهم ليكونوا خط الدفاع الأول عنه حتى لو وصل الأمر للتضحية ببناتهن وأبنائهم كما كان الحال مع وارين جيفز وأتباعه!.
لننظر حولنا، سنجد الكثير من أتباع جيفز الأب والابن ومريدى طريقه أو طريقته، من كل المذاهب والعقائد والأديان، فلنحترس منهم ونبتعد عنهم، سيطالبنا أمثاله بألا نلتفت للهجوم عليه، لكن الحقيقة ما هذا إلا فخ فهو فى الواقع يطالبنا بأن نغض الطرف عن جرائمه وأن نتبعه مسلوبى الإرادة، فالإجابة والخلاص الأخير ــ إن وجد ــ ليس حتما عن طريقهم أو طريقتهم!.
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر