استغلت بعض التيارات السياسية فترة الهدنة هذه لإعادة ترتيب الأوراق من الداخل، كما قام بعضها الآخر بتدعيم التواصل مع قواعد الناخبين وخلق مزيد من شبكات الثقة مع الجماهير، خطبًا لودهم وجذبًا لأصواتهم ، فإن أخرى كانت قد اكتفت بضجيج أصبح معهودا ومملا فى الفضاء الإعلامى لتسجيل بعض النقاط هنا أو هناك أو لتحقيق مكاسب افتراضية فى عالمها الحالم!
•••
أما كاتب هذه السطور فقد قرر استغلال الهدنة بشكل مختلف، حيث قام بمراجعة عامين كاملين منذ أن عاد إلى الوطن بعد سنوات الغربة تعامل خلالها مع مختلف القوى السياسية بعد الثورة من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، لكنه يظل أسيرا لتجربته مع الإسلاميين خاصة، ربما بحكم ذلك الظرف الاستثنائى الذى يحكمون فيه ذلك البلد الممتد بجذوره فى التاريخ، للمرة الأولى منذ التصميم الحديث للدولة، أو ربما بحكم ذلك الفيض من الدعوات الذى انهال عليه خلال تلك المدة من أبناء التيار على اختلاف مشاربهم (وهو ليس منهم) لإعطاء دورات فى التثقيف السياسى أو للمشاركة فى ندوات أو اجتماعات تشاورية...الخ، فماذا أفضت إليه عملية المراجعة هذه؟!
• أولًا: يتمتع أبناء التيار الإسلامى فى مجملهم بصدق شديد مع النفس وبنقاء حقيقى وبرغبة صادقة فى التعلم وبتواضع حقيقى لأهل العلم والعلماء، ولكن يعوزهم التعمق الحقيقى فى قراءة التاريخ الإنسانى للمعمورة كلها ، فمعظمهم لا يرى من التاريخ سوى ما هو إسلامى! ولا يقرأ عن الآخر إلا من منظور إسلامى وهو منهج (فى تقديرى) ضيق ومحدود فى فهم سنن البشرية و تطور الحياة!
• ثانيًا: يتميز أبناء التيار الإسلامى بالاجتهاد والجد والعمل من أجل تحقيق مشروعهم الذى يمثل لهم ببساطة حلم طال انتظاره، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع طبيعة المشروع ومدى واقعيته ومناسبته للزمن المعاصر وتعامله مع تحديات الواقع، فعلينا الاعتراف بأن حلمهم مشروع وجهدهم مشكور طالما تحقق بأدوات شرعية وبآلية ديموقراطية وفى سياق مدنى، لكن يؤخذ على معظمهم هنا عدم إعطاء الملائمة الظرفية والزمانية وزنها فى دراسة جدوى المشروع وآلية تحقيقه، فالاندفاع الجارف لتحقيق الخلافة دون مناقشة جادة ومنفتحة لسياقها التاريخى ومدى إلزامها الشرعى وآلية بل وجدوى تحقيقها فى ظل الظروف المعاصرة أمر غاية فى الخطورة لأنه قد يؤدى الى انهيارات غير محسوبة تعصف بالجميع!
• ثالثًا: مازالت تجربة دولة المدينة التى أقامها الرسول (صلى الله عليه وسلم) والدستور الذى ارساه فيها تمثل محورية الدولة التى يحلم بها الإسلاميون، دون الالتفات الكافى لذلك الاختلاف الرهيب بين دولة المدينة ودستورها (الذى لا يعدو من وجهة نظرى سوى أن يكون وثيقة عهد أو اتفاق أو معاهدة متقدمة على عصرها) وبين الدولة القومية الحديثة وأسسها وروابطها ومركزية الدستور الحديث فيها.
• رابعا: لدى أبناء التيار الإسلامى قدرة ملفتة على تقبل النقد ومرونة محمودة لتطوير الأداء والتكيف مع الواقع وفهم تعقيداته، لكنهم مع ذلك يقعوا فريسة سهلة لنظرية المؤامرة والتى تدفعهم بدورها دفعًا لاتخاذ مواقف دفاعية وتبريرية تخصم كثيرا من رصيدهم الشعبى ومصداقيتهم لدى غيرهم من التيارات الوطنية والثورية.
• خامسا: يتميز أبناء التيار الإسلامى بأن معظمهم من أبناء الطبقات المتوسطة وما دونها، يدركوا شظف العيش وتحديات ومصاعب وآلام الحياة، فتجد لغتهم أقرب للشارع، وفهمهم أعمق لنفسية المصرى البسيط وملبسهم أشبه بالمواطن العادى فى شوارع وحارات مصر، فليس فيهم الكثير من البهوات أو الهوانم!، بيد أن حركتهم بطيئة ومحملة بعبق وقيود التاريخ، فتجدهم يتصرفون كما لو أنهم مازالوا مستبعدون من اللعبة السياسية! رغم أنهم يحكمون بالفعل، وحسبت عليهم التجربة، وتعد عليهم ساعات وأيام وسنوات الحكم!
• وأخيرا فمازال حساب المظهر دون الجوهر وعدم الالتفات الكافى لفقه الأولويات يضع قيودا كبيرة على توجهات الإسلاميين وحركتهم، فالأولوية تدفع لحماية المنشآت والمبانى دون البشر! يعاودون الحديث عن «هيبة الدولة»! ويتناسون «هيبة المواطن»!، يدافعون عن حق ضباط الداخلية فى الالتحاء ويتناسون حق المواطن فى هيكلة الداخلية نفسها قبل أن تلتحى!
•••
إلى جانب كل ذلك، فمازال موقف أبناء التيار الإسلامى من التنوع البشرى وقضايا الحريات والمواطنة والأقليات محافظ للغاية ولا يرقى أبدًا لأوضاع ديموقراطية بل وزد على ذلك ثورية! أما أكبر التحديات التى أضحت تواجههم فهى كيفية التحول من المشروع الاجتماعى الدعوى إلى المشروع السياسى؟! ذلك أن التحول الحادث حتى الآن لا يبشر بكثير من الخير، فمعظم المبادئ الأخلاقية التى راهن عليها أبناء التيار الإسلامى عند ممارستهم للسياسة قد ذهبت هباء فى أول اختبار ومواجهة مع مقاعد السلطة وأضوائها وسحرها!، ليعد السؤال الحداثى نفسه مرة أخرى.. ما وزن المقدس الربانى مقابل المدنس البشرى عند ممارسة السياسة؟!
يحتج بعض علماء التيار الإسلامى على السؤال باعتباره من خارج السياق ونتاج لتطورات وصراعات حضارية غربية بالأساس ليست مطروحة فى العالمين العربى والإسلامى، والشطر الأول من الاحتجاج صحيح بالفعل، فالسؤال نتاج تفاعلات غربية بالأساس متعلقة بصراع بين الكنيسة والدولة هناك انتهى بقطيعة بين الاثنين فى ظل تحولات اجتماعية واقتصادية من الدولة الاقطاعية الزراعية لنظيرتها الرأسمالية الصناعية غير ملزمة بالضرورة لنا، لكن هنا تبقى المعضلة! فالدولة الحديثة التى يقودها الإسلاميون الآن هى تصميم واخراج غربى بالأساس وهو ما يعنى أن سؤال مدرسة الحداثة عن مواجهة المقدس بالبشرى مطروح شئنا أم أبينا على المشروع الإسلامى على الأقل فى الأجلين القصير والمتوسط طالما بقية بنية الدولة الحديثة الغربية كما هى... فهل من إجابة؟!
كانت هدنة رائعة، كشفت لى أن الاستقطاب والشيطنة صناعة لها معلميها وحرفيها، لكنها صناعة مقيتة، مضطرون بعد أيام أو أسابيع قليلة للأسف أن نعود إليها، لكنا علينا أن نتذكر أن التجربة هى مدرسة البشر، وأن الإسلاميين شئنا أم أبينا هم من أبناء هذا الوطن ومن لحمته، علينا الاقتراب منهم أكثر لفهمهم وفهم تاريخهم ومحدداتهم وقيودهم، كما أن عليهم أن يخرجوا من عالمهم الضيق إلى الوطن الأرحب بتنوعاته وتناقضاته، وأن يفهموا الآخر ويصغوا إليه جيدًا، فبدون ذلك لن تكون لتجربتهم بعدًا انسانيا ولا أخلاقيًا كثيرًا ادعوا أنه أساس مشروعهم! هدنة سعيدة!
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة