كلما حملت الأخبار السورية خبرا عن معارض ولد علويا، ظهرت أصوات تشكك أو تعترض أو تكشف مؤامرة ما، أو مصلحة ما تقيم وراء هذا الاسم وتوجه صاحبه. هكذا تفيض وسائل التواصل الاجتماعى وقنوات التلفزيون بكم من الوحل يجرف، فى ما يجرف، ما تبقى من براءة لاتزال تستبعد الطائفية عن الاجتماع والثورة السوريين.
وفى عرف المشككين هؤلاء، يغدو العلوى محكوما بحتمية أو بقدر لا يسعه، وهو مسكون به، أن يتزحزح أنملة عنه. ولئن أفسحت الحتمية الطبقية مكانا، ولو ضيقا، لمن «يخون طبقته»، فإن الحتمية الطائفية تعدم وجود العلوى الذى «يخون طائفته»، أو مجرد افتراض ذلك.
والحق أن الذين ينفون هذا الاحتمال عن سواهم إنما يعكسون تماهيهم العميق مع طائفتهم هم. فلأنه يستحيل على هؤلاء أن يخونوا طائفتهم، استحال افتراض مثل هذه الخيانة فى الآخرين. وإذ لا يخفى هؤلاء تماهيهم هذا، بل يرفعونه دليلا شاملا للحياة والسياسة، فإنهم يصرون على وجود فارق نوعى بين التماهيين: ذاك أن أحدهما ينضح بالحق والخير والجمال، فيما الثانى، المنسوب زورا إلى سواهم، لا يعتصم، تعريفا وجوهرا، بغير حبل الشر.
ولأن الطائفية بطبيعتها احتكارية للفضائل، فضلا عن الثروات، فمن أكثر ما تسعى إلى احتكاره الاستضحاء، ذاك أننا «وحدنا»، وبالخير الذى «فينا»، ضحايا الأسد، فيما أنتم، المجبولون بالإثم، لا تقيمون إلا فى القطب الآخر للعلاقة، بوصفكم جلادين.
وهؤلاء لا يدركون كم أنهم صنيعة الأسد ومصنوعوه، يحملونه فى دواخلهم مثالا يريدونه لذواتهم، فلا يظفرون منه إلا بأجزاء ونتف مكسرة. بهذا تراهم يهبطون حتى عن مثاله الهابط، على ما فعل أنداد لهم فى العراق ممن عرفوا بالمعارضين الشيعة وانتهوا صدامات صغارا من دون أن يكونوا هم من أطاح صدام.
•••
ورؤية للعالم كهذه هى، بطبيعة الحال، عرس آخر من أعراس الزواج المألوف بين التعصب والخرافة، حيث يستجدى التغيير والأمل من أطراف كـ«النصرة» و«داعش»، أو من رفات صدام لمجرد كونهم سنة. إلا أن تلك الرؤية، فى ما خص الثورة السورية، إن بوصفها رواية أو بوصفها مثالا، تقدم نسخة «داعشية» عنها، نسخة لا يطمح بشار الأسد إلى ما هو أنفع منها.
فما جرى وما يجرى هو، وفقا للتأويل هذا، صراع طائفى محض أو حرب أديان ومذاهب ليس إلا. وفى حرب كمثل هذه، نكون «كلنا» ضد «كلهم»، فإذا ما انضم «إلينا» وافد «منهم» كان «علينا» أن نلفظه ونعمل على رده إلى المكان الذى صدر عنه. ذاك أن هذا الصراع، كما يراه أصحاب التأويل المذكور، ليس سياسيا، ولا يتطلب بالتالى توسيع جبهة الحلفاء والأصدقاء. إنه ــ على العكس ــ صراع ماهوى يحافظ كل طرف فيه على نقاء صورته، المستمدة من صورة طائفته، بحيث لا تختلط الصور ولا يرتبك التحليل. أما ما يراد بناؤه فليس وطنا ودولة مشتركين، بل حرب «مشتركة»، أى حرب أهلية مفتوحة، تستدعى أن يبقوا «هم» متراصين هناك ونبقى «نحن» متراصين هنا.
وهذا إنما يهدى جميع العلويين، بل جميع غير السنة، للأسد بقدر ما يتيح له القول إنه إنما يقاتل المتعصبين. وهو ما لم يكف الأسد عن قوله وفعله، ولو معززا بمتعصبين آخرين من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان.
وفى الأحوال جميعا، إذا صح أن ضعف الدور العلوى فى الثورة شهادة على طائفة نجح النظام فى تخويفها واستنفار مشاعرها الأقلية، فإن الضعف ذاته شهادة لغير مصلحة الثورة التى لم تنجح فى تبديد تلك المخاوف. والأمور ينبغى أن ترى دوما بعينين اثنتين أعطيتا لنا.