تردد الحديث كثيرا فى الأسابيع الأخيرة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وذلك بمناسبة تقديم الحكومة المصرية تقريرها الدورى الثانى للمجلس حول مدى التزامها بالاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان، والجهود التى تبذلها لتعزيزها. وبعد انتهاء المناقشة الأولى لتقرير الحكومة المصرية عاد أعضاء الوفد المصرى إلى القاهرة، ووصفوا ما قاموا به فى جنيف حيث يعقد المجلس اجتماعاته على أنه نصر مبين، وشاركتهم الصحف فى التهنئة على ما أحرزوه من نجاح، وحسب هذه الصحف، رغم الجهود المحمومة التى قام بها من يتآمرون ضد مصر، وهم بطبيعة الحال تركيا وقطر، وبعض منظمات حقوق الإنسان الدولية «المشبوهة» من وجهة نظر معظم الصحف المصرية، وسخر أحد الكتاب من هذا المجلس لأنه يهتم فقط بالحقوق المدنية والسياسية ويهمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى يرى، وتسانده فى ذلك الرأى مصادر رسمية، أن الحكومة المصرية حققت بشأنها إنجازات ضخمة. فما هى حقيقة هذا المجلس؟ وما هى معايير نجاح أى دولة فى الاختبار الذى يعقده لها عندما يستمع كل ممثلى الدول أعضاء الأمم المتحدة لتقريرها الدورى الشامل، ويعلقون عليه؟ وما الذى يمكن أن يفعله المجلس فى مواجهة الدولة التى تخفق فى هذا الاختبار؟ هذا هو موضوع هذا المقال.
لماذا ظهر المجلس إلى الوجود؟
لقد نشأ مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة لكى يخلف لجنة حقوق الإنسان فى المنظمة الدولية، والتى كانت مهمتها متابعة أوضاع حقوق الإنسان فى الدول الأعضاء، ولكن عديدا من الدول والمنظمات غير الحكومية المهتمة بهذه الأوضاع رأت أن عملها يفتقد الفعالية، لأن عضويتها مفتوحة أمام كل الدول الأعضاء بما فى ذلك الدول ذات السجل المؤسف فى احترام حقوق الإنسان، وأن جدول أعمالها والمناقشات التى تجرى فى اجتماعاتها يغلب عليها الطابع السياسى، فهى تسرف فى انتقاد الدول التى لا تتمتع بتأييد كاف بين أعضائها، وتمتنع عن مناقشة انتهاكات خطيرة لهذه الحقوق فى دول تملك بحسب ثروتها أو مكانتها الدولية ونفوذها بين الأعضاء ما يجعل هؤلاء الأعضاء لا يفكرون أصلا فى مساءلتها عن هذه الانتهاكات. وقد شهدت بنفسى سنة ١٩٧٧ كيف أن بعض الشباب الإيرانيين قبل سقوط حكم الشاه فى بلدهم قد اقتحموا قاعة اجتماعات هذه اللجنة فى جنيف صارخين فى الأعضاء المجتمعين لماذا لا تناقشون ممارسات السافاك جهاز مخابرات الشاه وأوضاع المسجونين السياسيين هناك والذين وصل عددهم إلى قرابة ثلاثين ألفا.
كان هذا الأسلوب غير الدبلوماسى هو الوسيلة الوحيدة لذكر انتهاكات حقوق الإنسان فى لجنة حقوق الإنسان على عهد شاه إيران الذى كان يتمتع بنفوذ دبلوماسى واسع بسبب ثروات إيران النفطية، ومكانتها الاستراتيجية فى الشرق الأوسط والتأييد الذى كان حكمه يلقاه من كبرى الدول الغربية.
لذلك طرحت بعض الدول والمنظمات الحقوقية غير الحكومية أفكارا لإصلاح نظام مراقبة أوضاع حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة، بتحويل الاختصاص فى ذلك إلى مجلس ذى عضوية محدودة، وكان تصورهم أن تقتصر عضويته على الدول ذات السجل المشهود فى احترام حقوق الإنسان، وأن تخضع جميع الدول الأعضاء فيه لمساءلة دورية عن الجهود التى تبذلها للوفاء بهذه الحقوق ترجمة لالتزاماتها بموجب تصديقها على الاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان والتى تشمل العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وسبع اتفاقيات دولية أخرى. وقد انتهت المناقشات حول هذه الأفكار داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إنشاء مجلس لا يحقق تماما كل هذه الاعتبارات، صحيح أن عضويته محدودة نسبيا تقتصر على سبع وأربعين من الدول الأعضاء، ولكن هؤلاء تتغير عضويتهم بعد ثلاث سنوات ليحل محلهم آخرون من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبذلك تكون كل الدول قد مرت بعضوية المجلس مرة واحدة كل تسع سنوات، وذلك دون إعمال جاد لشرط العضوية وهو أن يكون للدولة سجل مشهود فى تعزيز النهوض بحقوق الإنسان، وحتى تكون المناقشات خلوا من احتمال التسيس، وحتى يتوافر نوع من الضغط الأدبى والشعور بالمسئولية على الدول الأعضاء، فقد انتهت مناقشات الأمم المتحدة إلى التزام الدول أعضاء المجلس بتقديم تقرير دورى شامل كل أربع سنوات عن جهودها فى تنفيذ التزاماتها بموجب اتفاقيات حقوق الإنسان التى صدقت عليها، وتعلق على هذا التقرير الدول أعضاء الأمم المتحدة سواء كانت من أعضاء المجلس فى دورة السنوات الثلاث. أم لم تكن من أعضائه فى ذلك الحين، وتعود الدولة التى قدمت التقرير بعد ثلاثة شهور للرد على التوصيات التى قدمتها لها الدول أعضاء الأمم المتحدة التى ناقشت تقريرها. وبذلك تكون الأمم المتحدة قد فضلت أسلوب الدبلوماسية الهادئة طريقا لحث الدول الأعضاء على النهوض بأوضاع حقوق الإنسان داخل حدودها، وهو بكل تأكيد أقل حسما بكثير من الأسلوب القضائى الذى لجأت إليه دول ومنظمات خارج الأمم المتحدة، وأشهر أمثلته محكمة حقوق الإنسان التابعة لمجلس أوروبا فى ستراسبورج بفرنسا، والتى اقتدت بها، وبفاعلية أقل محكمة الأمريكيتين لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الدول الأمريكية، والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب التابعة للاتحاد الإفريقى. وبطبيعة الحال كان للأخذ بهذا الأسلوب الدبلوماسى السياسى الذى يعول على الأثر الأدبى للمساءلة التى تتعرض لها الدولة فى إطار المجلس جوانبه السلبية والإيجابية معا. فالدولة التى تتعرض للمساءلة لها الحق فى أن تقبل من التوصيات المطروحة عليها ما يعجبها وتمتنع عن الالتزام بتنفيذ التوصيات التى لا تروق لها، ولكن يقال إن هذا الأسلوب «الرقيق» فى المساءلة من شأنه أن يشجع الدول على أن تقبل بولاية دولية عليها فيما يخص موقفها من حقوق الإنسان، وأن من شأن ذلك أن يجتذبها تدريجيا لتوفير هذه الحقوق لمواطنيها. ولكن لا تخرج مناقشات المجلس بحكم أنه جهاز سياسى وليس قضائيا عن الطابع السياسى، فمواقف الدول تتحدد فى الغالب بمصالحها والأهمية التى توليها لحقوق الإنسان فى سياستها الخارجية. ولذلك تنحو الدول ذات السجل المتواضع فى احترام هذه الحقوق إلى أن تناصر بعضها البعض وتشكل كتلا للحيلولة دون اتخاذ مواقف قوية ضد الدول التى تضرب بهذه الحقوق عرض الحائط. ولذلك تنتقد الحكومات الغربية خصوصا تسيس النقاش داخل المجلس، ولعله من المفيد التذكير هنا بأن المثل البارز من وجهة نظرها على هذا التسيس هو وضع بند دائم على جدول أعمال المجلس فى كل دوراته وهو البند السابع خاص بانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان وإعمال حق تقرير المصير للفلسطينيين، كما عين المجلس مقررا حول أوضاع حقوق الإنسان فى الأراضى المحتلة يمارس اختصاصاته دون التقيد بفترة محددة لمنصبه. وقد تولى هذه المهمة دكتور ريتشارد فالك أستاذ القانون الدولى البارز فى جامعة برنستون والناشط الحقوقى المتحمس، والذى لم تشفع له يهوديته من غضب الحكومة الإسرائيلية عليه وترحيله من الضفة الغربية. ويدعى ناقدا المجلس أن التصويت فيه تحكمه كتلة من الدول ذات السجل المتواضع فى احترام حقوق الإنسان وهى الدول الإسلامية والأفريقية والتى يساندها الاتحاد الروسى والصين وكوبا.
ومن هذا العرض المختصر يمكن أن تستنتج أن المجلس لا يعادى الدول العربية ولا مصر التى تملك علاقات طيبة مع الكتلة ذات أغلبية الأصوات فيه، كما أنه بحكم مسئوليته عن متابعة تنفيذ الدول لالتزاماتها بموجب العهدين الدوليين واتفاقيات حقوق الإنسان الأخرى التى تغطى أوضاع الطفولة والأمومة والعمال المهاجرين لا يقتصر كما يدعى بعض الكتاب فى الصحف المصرية على الحقوق السياسية والمدنية.
مصداقية مواقف الدول داخل المجلس
ولكن إذا كان الطابع السياسى هو الذى يسود داخل المجلس، فهل يعنى ذلك أن المساءلة التى تتعرض لها الدولة داخل المجلس لا قيمة لها، وأن كل الدول تعطى لأعضاء المجلس نفس الانطباع عند مناقشة تقريرها؟ وأن العاملين بالمجلس وخصوصا أمانته التى تصدر بيانات عن أوضاع حقوق الإنسان فى الدول المختلفة وكذلك المفوض السامى لحقوق الإنسان الذى يدير المجلس لا يدرك تباين هذه الأوضاع بين دولة وأخرى. ليس ذلك صحيحا، ويمكننا التعرف على نجاح الدولة فى الاختبار الذى تمر به أمام المجلس وفقا على الاعتبارات التالية:
أولا: أن يكون التقرير الشامل الدورى الذى تقدمه للمجلس كل أربع سنوات قائما على الحقائق، وليس مجرد ذكر لما جاء فى دستورها أو قوانينها عن هذه الحقوق، وإنما يكون مناقشة صريحة كذلك لممارساتها، بما فى ذلك الصعوبات التى تواجهها فى إعمال جميع الحقوق.
ثانيا: أن تكون ردودها مقنعة بالنسبة للتوصيات المقدمة إليها، وخصوصا التوصيات التى تطالبها بأعمال محددة أو بالامتناع عن ممارسات معينة، أو بذكر معلومات تجدها محرجة مثل عدد المسجونين السياسيين، أو من تعرضوا للتعذيب فى سجونها أو حالة حرية التعبير فى مجتمعها.
ثالثا: أن تلتزم بروح التعاون فى علاقتها بجهاز المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والبيانات التى يصدرها، وخصوصا تلك التى تتنقد ممارساتها بالنسبة لفئات معينة من الحقوق، وخصوصا الحقوق المدنية والسياسية وأوضاع الأقليات، فلا يخرج المتحدثون باسمها يستنكرون هذه التقارير، ويتهمون المفوضية والعاملين فيها بأنهم ضحايا مؤامرات من جانب عدد محدود من الدول الأعضاء أو منظمات دولية لحقوق الإنسان تحظى فى المجتمع العالمى بمصداقية عالية.
رابعا: أن يكون لها سجل مشرف فى تنفيذ التزاماتها بموجب معاهدات حقوق الإنسان وإزاء اللجان الدولية المسئولة عن متابعتها، فلا تتأخر عن تقديم تقاريرها لها لعقود من الزمن، وخصوصا اللجان التى تكافح أشد انتهاكات حقوق الإنسان خطورة مثل اللجنة المسئولة عن اتفاقية مكافحة التعذيب، وأن تسمح بزيارة مقررى هذه اللجان لأراضيها وتسهل لهم مهامهم، وأن تنضم إلى البروتوكولات الإضافية لهذه المعاهدات التى تسمح لمواطنيها بالتقدم بالشكاوى لهذه اللجان لما يتعرضون له من انتهاكات خاصة ببنودها.
وهكذا لا يكفى أن يتحدث المسئولون الرسميون أمام مجلس حقوق الإنسان يشيدون بأوضاع حقوق الإنسان فى بلادهم، ليكون ذلك دليلا على أنهم أقنعوا المجتمع الدولى بغير الحقائق التى يعرفها هذا المجتمع عن تلك الأوضاع، أو أن اللغة الدبلوماسية المهذبة التى صاغ بها ممثلو الدول ذات السجل المشرف فى احترام حقوق الإنسان لمواطنيها توصياتهم حول واقع حقوق الإنسان فى الدولة التى قدمت حكومتها تقريرها هى شاهد على أن التقرير قد غير فكرتهم عن هذا الواقع.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة