تاريخ مصر الحديث.. مِن تولى الخديوى توفيق إلى الثورة العرابية - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تاريخ مصر الحديث.. مِن تولى الخديوى توفيق إلى الثورة العرابية

نشر فى : السبت 26 ديسمبر 2020 - 7:45 م | آخر تحديث : السبت 26 ديسمبر 2020 - 7:45 م

كنت قد انتهيت فى المقال الذى نشر يوم 28 نوفمبر إلى وقوع الخديوى إسماعيل فى براثن الاستعمار الذى كبله بالديون وسلب منه إدارة صنع القرار، حتى تمكن البريطانيون والفرنسيون من إقناع الباب العالى فى إسطنبول بإقالة إسماعيل وتعيين ابنه الأكبر توفيق بدلا منه عام 1879.
الخديوى توفيق كان قد ولد فى 1852، أى أن عمره وقت تقلد الحكم لم يكن قد تجاوز 27 عاما وعلى الرغم من ذلك فقد كان الخديوى قريبا للغاية من شئون الحكم حيث تولى رئاسة المجلس الخصوصى فى عهد والده كما تولى نظارتى الداخلية والأشغال العامة حتى أنه قد ترأس النظار فى نهاية الأمر، ومن هنا لم يكن يحتاج الكثير من الوقت لكى يكون ملما بتفاصيل الحكم وطبيعة الأزمة المالية التى تمر بها البلاد.
ولكن وفور توليه الحكم فقد واجه تحديات مبكرة، لم تقتصر فقط على مسألة الديون، ولكن كان التحدى الآخر هو قيام الباب العالى بسحب معظم الامتيازات التى كانت قد مُنحت للخديوى إسماعيل، بحيث تم تقييد سلطة الخديوى الجديد فى عقد الاتفاقات المالية مع الدول الغربية، كما عادت النقود لتصك باسم الباب العالى كما كان الوضع قبل عهد إسماعيل، وكان التقييد الأهم من كل ذلك هو أمر الباب العالى بألا يزيد الجيش المصرى على 18 ألف جندى!
كان الخليفة الأشهر عبدالحميد الثانى قد تولى السلطة قبل ذلك بثلاثة أعوام فقط، ورغم خطابه المعلن المعادى للغرب والداعم للإسلام فإنه قد استجاب لضغوط البريطانيين لخفض عدد جنود الجيش المصرى خوفا من استقلال الدولة المصرية عن الخلافة العثمانية، ولم يكن ذلك بالقطع إلا فخا نُصب لعبدالحميد وقد وقع فيه بكل سهولة فأصبح الاحتلال البريطانى لمصر ممكنا!
***
فور توليه السلطة طلب الخديوى توفيق من شريف باشا تشكيل الحكومة، فشرع الأخير بالفعل فى تشكيلها ولكنه اشترط على الخديوى فى اللحظات الأخيرة مشروعا للدستور المصرى، وهو الأمر الذى رفضه توفيق فطلب من رياض باشا تشكيل الحكومة وهذا ما فعله الأخير ليكون أول رئيس للنظار فى عهد توفيق. كانت أولى تحديات الحكومة هى مسألة تسوية الديون المصرية، وفى هذا الصدد فقد تم إرغام رياض باشا على القبول بحضور مفتشين ماليين أجانب (اللورد كرومر عن إنجلترا، ومسيو بلينيار عن فرنسا) جلسات الحكومة لمراقبة الإنفاق العام والميزانية، ورغم أن المفتشين كان موقعهم استشاريا فقط، لكن كثيرا ما تدخلوا فى بعض القرارات مما دفع رياض باشا للتصادم معهم فى بعض المرات ولكنه لم يكن يملك من أمره شىء فى النهاية!
ثم كانت مرحلة أكثر قسوة فى طريق حكومة رياض ومن ورائها الخديوى توفيق بالطبع وهى اللجنة الخماسية التى تألفت لتصفية الديون المصرية ولم يكن فيها سوى ممثل مصرى واحد وهو بطرس غالى باشا والتى أصدرت فى النهاية 99 بندا قيدت وبقوة عمل الحكومة وأجبرتها على التقشف فى المصاريف العامة وكان من أهم هذه البنود بحسب كتاب «تاريخ مصر الحديث من الفتح الإسلامى إلى الآن مع فذلكة فى تاريخ مصر القديم» لجورجى زيدان ص 657 هو ما يلى:
• أن يذهب صافى إيراد السكك الحديدية والتلغرافات وميناء الإسكندرية بالكامل لتسديد فوائد واستهلاك الدين الممتاز وتم تحديد هذه الفائدة لتكون 5٪ سنويا.
• أن يذهب صافى إيرادات الجمارك وعوائد التبغ والدخان والعوائد القادمة من مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط بما فيها جميع الرسوم المقررة باستثناء إيراد الملح والدخان لتسديد الدين الموحد بفائدة 4٪ سنويا.
• أن تكون كل أملاك الدائرة السنية والرهون العقارية المسجلة مخصصة لضمان تسديد دين الدائرة السنية العمومى.
• أن تذهب البواقى من سلفة الأملاك الأميرية والنقود الباقية فى خزينة النظارات والمديريات حتى عام 1879 بالإضافة إلى أى عوائد ورسوم من أى مصدر كانت حتى 1879 لتسوية الدين السائر.
قطعا كان يعنى هذا ببساطة شل يد الحكومة والخديوى أمام الشعب ورغم ذلك فقد حاولت الحكومة تخفيف الأعباء عن المواطنين وخصوصا الضرائب الشخصية حتى قامت الثورة العرابية والتى كانت بمثابة ضربة جديدة للحكومة والخديوى!
***
كان أحمد عرابى قائد هذه الثورة من المشهورين بين الضباط والجنود المصريين بالشجاعة وقوة الشخصية، كما كان واحدا من القلائل الذين وصلوا إلى مراتب عليا فى الجيش رغم أن خلفيتهم هى من الفلاحين المصريين الذين عادة ما حرموا من الترقيات لصالح الضباط الأتراك والشركس، وأمام تفاقم سوء معاملة الجنود المصريين والتمييز ضدهم فى الراتب والإجازات والترقيات طلب الجنود المصريون من عرابى نقل مطالبهم إلى حكومة رياض باشا وهو ما فعله عرابى بالفعل حيث ترأس وفدا للتفاوض مع رياض باشا حول بعض المطالب وفى مقدمتها: (1) ضرورة تشكيل مجلس للنواب لتمثيل الشعب المصرى فى صنع القرار والرقابة على أعمال الحكومة. (2) أن يتم تعديل كل القوانين العسكرية لتقر المساواة التامة فى الرواتب والإجازات والترقيات بغض النظر عن الأجناس والأديان. (3) وأخيرا أن يتم تعيين ناظر (وزير) مصرى للجهادية. ذكر هذه المطالب مهم فى هذا السياق، لأن بعض الأقلام المعاصرة تدعى أن الثورة العرابية لم يكن لها سوى مطالب ذاتية خاصة بزيادة المرتبات وقطعا هذا غير دقيق!
حاول اللورد كرومر الإيحاء للخديوى توفيق أن «الحركة العرابية» ما هى إلا مؤامرة تم تنظيمها بواسطة قائد حرس القصر الخديوى الأميرالاى على فهمى نتيجة لسوء معاملة الخديوى له، ولكن لم يثبت أبدا هذا الادعاء!
تجاهلت حكومة رياض باشا لأيام مطالب الحركة العرابية بل وقد حاول بعض النظار الضغط على الحركة لسحب مطالبها، لكن لما أدرك الخديوى توفيق تصاعد التوتر بين الحركة وبين النظارة فقد أرسل إلى رياض باشا ليطلب منه الرد على مطالب الحركة، ورغم ذلك فقد اتخذ مجلس النظار قرارا غير معلن بالقبض على العرابيين وبالفعل تم القبض على بعض القيادات وتجريدهم من سلاحهم فى قصر عابدين، إلا أن باقى أعضاء الحركة وقد تسرب إليهم مسبقا خبر مكيدة مجلس النظار لهم قاموا بالاتحاد والهجوم على القصر وتحرير زملائهم واستعادة السلاح مما مثل تهديدا كبيرا لسلطة الخديوى، فما كان من الأخير إلا واستجاب لمطالب الحركة وقام بتعيين محمود باشا سامى البارودى على نظارة الجهادية بدلا من رفقى باشا وأمر الخديوى توفيق كذلك رياض باشا بالنظر فى باقى مطالب الحركة العرابية خاصة أن نجاحها السريع زاد من شعبيتها بين الجنود المصريين!
خشيت الحركة العرابية أن تكون قرارات الخديوى مجرد تهدئة لهم حتى يتم الانقضاض عليهم لاحقا، إلا أن محمود سامى البارودى والذى يُعتقد أيضا أنه من أبلغ الحركة بمكيدة مجلس النظار، ضغط على الحكومة لتنفيذ باقى المطالب، وبالفعل أصدر الخديوى فى إبريل من عام 1881 أمرا بزيادة مرتبات الضباط والعساكر وتعديل القوانين العسكرية للمساواة بين الضباط والجنود فى أوجه الترقيات والمرتبات مما عُد انتصارا كبيرا للحركة! لكن لم يكن هذا إلا بداية صراع بين العرابيين والخديوى.. أكمل تفاصيله فى الأسبوع القادم.

أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر