سواء كانت لـ«جس النبض» أو تلويحا بتنفيذ عاجل لخطة التطهير العرقى للفلسطينيين فى غزة، فإن تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن نقل سكان القطاع «المدمر» إلى الدول المجاورة، لا يمكن أن تمر مرور الكرام، فهى «ليست زلة لسان»، بل سعى جدى لفرض واقع يحلم به المتطرفون من اليمين الإسرائيلى أمثال نتنياهو وبن غفير وسموتريتش اللذين رقصا طربًا على أنغام ترامب.
وباعتباره سمسارا عقاريا لا يرى ترامب فى غزة سوى فرصة استثمارية، وأرض قابلة للبيع والشراء، ونذكر بتصريحاته فى أكتوبر الماضى بأن غزة أصبحت مدمرة جراء الحرب، ويمكن الآن أن تتحول إلى «أفضل من موناكو إذا أُعيد بناؤها بالطريقة الصحيحة»، فقطاع غزة فى نظره «موقع رائع يطل على البحر والطقس به جميل، ويمكن القيام بأشياء رائعة فيه»،
تصورات ترامب «كمطور عقارى» عن غزة كانت تكرارا للرغبات الاستثمارية لصهره جاريد كوشنر الذى قال فى فبراير من العام الماضى إنه «إذا تم تفريغ غزة من المدنيين فيمكن إطلاق العنان لإمكانيات واسعة، لأن موقع القطاع له واجهة بحرية طويلة».
فى ولايته الأولى أفشل الفلسطينيون «صفقة القرن» التى روَّج لها ترامب باعتبارها الطريق لتحقيق «السلام» على جثث الفلسطينيين وسلب حقوقهم، واليوم يعود الرئيس الأمريكى بحيلة جديدة لتمرير الصفقة الخاسرة ذاتها، متوهمًا أن الفلسطينيين ودول الجوار كمصر والأردن وباقى الدول العربية يمكن لهم التسليم بأوهامه وأحلام إسرائيل التوسعية التى فشلت فى تحقيقها بحرب إبادة جماعية استمرت 471 يومًا قبل وقف إطلاق النار الأخير.
يعتقد ترامب أن تصريحاته التى يطلقها يمينًا ويسارًا لتهديد الشعوب فى الشرق والغرب يمكن فرضها لمجرد كونه يجلس فى البيت البيضاوى، متجاهلاً أن فتح باب النزاعات على مصراعيه مع كندا وبنما وجرينلاند، غربا، والصين وروسيا شرقًا، لن يجلب القوة لأمريكا، والإيحاء بأنه الرئيس «المتهور» الذى لا يمكن ردعه، مجرد فزاعة لا يجب أن تُرهب أحدًا.
الأمريكيون وحلفاؤهم الإسرائيليون ليسوا أرباب الكون، يأمرون فتطاع أوامرهم، فقد صمد الفلسطينيون فى غزة أكثر من 15 شهرًا فى وجه آلة الدمار والهلاك الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا بالمال والعتاد والرجال، وفشلت الصواريخ والقذائف فى تحرير الأسرى الإسرائيليين، وأجبرت المقاومة تل أبيب على الرضوخ لشروطها، لتوقيع صفقة تبادل جرت عملياتها فى وضح النهار.
يتحدث ترامب عن «دمار» هائل فى غزة و«فوضى» يصعب العيش معها، ويروج البعض بأن الأوضاع المعيشية القاسية لسكان غزة يمكن أن تكون سبيلاً لتشجيع قطاع منهم إلى هجر وطنهم والرحيل إلى الخارج، ويتجاهل هؤلاء «المرجفون» أن الفلسطينيين منذ إعلان الدولة العبرية عام 1948، ظلوا وسيظلون الصخرة التى تتحطم عليها أوهام تصفية قضيتهم.
رفض الفلسطينيون بمختلف فصائلهم تصريحات ترامب فى التو واللحظة، كما فعلت مصر والأردن والجامعة العربية، وربما يكون بيان الخارجية المصرية ترجمة صادقة للموقف الشعبى الداعم للأشقاء الفلسطينيين، وهو البيان الذى شدد على أن القضية الفلسطينية تظل القضية المحورية بالشرق الأوسط، وأن التأخر فى تسويتها، وفى إنهاء الاحتلال وعودة الحقوق المسلوبة للشعب الفلسطينى، هو أساس عدم الاستقرار فى المنطقة.
بيان الخارجية المصرية كان قاطعًا فى رفض تصريحات ترامب عن تهجير «مؤقت أو طويل الأمد» لسكان غزة إلى دول الجوار، كما كان واضحًا فى رفضه لأى مساس بحقوق الشعب الفلسطينى باعتبارها غير قابلة للتصرف، «سواء من خلال الاستيطان أو ضم الأرض، أو عن طريق إخلاء تلك الأرض من أصحابها من خلال التهجير أو تشجيع نقل أو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، سواءً كان بشكل مؤقت أو طويل الأجل».
يظن ترامب أن تهديدات «المتهورين» من أمثاله عن «تطهير» غزة يمكن أن تثير الرعب والخوف، لكن من ضحوا لمنع تصفية القضية الفلسطينية بالمال وأرواح الرجال لا يمكن لهم التفريط فى أمنهم القومى، باعتبار تهجير الفلسطينيين إلى سيناء «خطا أحمر» غير قابل للمساومات.